فاجأنا المبعوث الأممي الثالث لليمن، البريطاني مارتن غريفيث، بتسريب خطة سلام غريبة وعجيبة، تختزل الصراع في اليمن بالصراع حول ميناء الحديدة. صحيح ما طرحه بمثابة مقدمةٍ، بحسب ما تسرب عنه، ومدخلٍ للمفاوضات الشاملة التي أعلن عن إمكانية انعقادها في جنيف في سبتمبر/ أيلول المقبل، لكن الأمور تُقرأ من عناوينها. وقد أفصح غريفيث، في هذه التوطئة التي اختزلت الصراع كله حول ميناء الحديدة، بوضوح، عن النوايا التي يمضي إليها وفريقه، وهي تجزئة الصراع مدخلا لتفتيت القضية، وتجزئة الملف اليمني، مقدمة تقود إلى نتائج خطيرة وكارثية على مستقبل اليمن، وشرعيته، وقضيته الواضحة وضوح الشمس انقلابا وشرعية منقلبا عليها.
وضوح النيات الدولية التي يعبر عنها غريفيث، في خطته المزمعة للسلام، وفي توطئته وإحاطته التي قدّمها أخيرا لمجلس الأمن الدولي، يعكس حقيقة الموقف الدولي من المليشيات الانقلابية، وحجم الدلال والرعاية التي تتمتع به هذه المليشيات من المجتمع الدولي الذي يمضي بعيدا عن قراراته السابقة التي وصفت الصراع اليمني بدقة، في محطاتٍ سابقة، وفي مقدمتها القرار الأممي 2216 الذي صنّف الأزمة انقلابا على الشرعية.
كل هذه المقدمات التي بدأت بالظهور، فيما يتعلق بالصراع والأزمة في اليمن، نتاج طبيعي لطول أمد الحرب وفشل الشرعية والتحالف العربي في إدارتها، ومن ثم فشل في سرعة الحسم فيها، ولن تخرج أيضاً هذه المواقف الدولية عن مجمل التعاطي الدولي مع القضايا العربية كلها، وطبيعة الدور الفاشل الذي لعبه المجتمع الدولي في هذه الملفات، من فلسطين فالعراق فسورية وليبيا واليمن، وقبلها كلها الصومال.
كان مبعوثو المجتمع الدولي الأمميون إلى اليمن من جمال بن عمر، مرورا بإسماعيل ولد الشيخ، وصولا إلى مارتن غريفيث، كلهم كانوا ميسرين لإدارة الأزمة أكثر منهم وسطاء حقيقيين ومحايدين. وبالتالي ليست مسيرة الفشل هذه شيئا خارج المتوقع أصلا، ولكن الإشكال اليوم هو في الاستمرار في تعاطي الشرعية اليمنية معهم بجدية عالية، ما يجعلها عرضة للابتزاز المستمر.
يتضح هذا المسار الدائم والمستمر للفشل الأممي في اليمن في هذا التعاطي الأممي السطحي للأزمة، والقافز فوق معرفة جذورها وأسبابها، والاكتفاء بالحديث الدائم عن نتائجها وأعراضها فقط، وهو ما يتجلى بهذه الطريقة الاختزالية والهروبية في توصيف الصراع والرغبة الكبيرة في إطالة أمد الحرب أطول فترة ممكنة، واستدامتها أيضاً، لندخل اليوم في السنة الرابعة، ومرحلة المبعوث الثالث لها تراوح في مكانها.
ثلاث سنوات ونصف السنة، وحديث السلام وأدواته وأدبياته لم تتغير، على الرغم من التحولات السياسية الكبيرة في الصراع، بل الكارثة أن أدبيات توصيف الحرب والأزمة تراجعت كثيرا عما كانت عليه في بداية الأزمة، وخصوصا فيما يتعلق بالقرارات السابقة ومسيرة التفاوض التي كان في ختام كل مرحلة تنكص جماعة الحوثي عن التوقيع على مسوداتها الختامية، كما في جنيف أو الكويت، من دون أي إدانة أو استنكار أممي لذلك التصرّف، ما أغراها بمزيد من المراوغة والعبث.
تعقيدات المشهد اليمني في ازدياد، وتحولاتها طوال ثلاث سنوات ونصف السنة، وحجم تداعيات هذه الحرب وضخامتها، جعلت من الصعوبة بمكان الحديث عن حلولٍ سياسيةٍ، واختزال هذه الحلول بقضايا جزئية لا تساعد على الإطلاق في السير نحو السلام المزعوم، بقدر ما تضفي بعدا تعقيديا آخر، متمثلا في إضعاف الشرعية، ودعم الانقلابين وتشجيعهم في استمرارهم في المناورة، ومنحهم مزيدا من الوقت، لترتيب أوراقهم التي كلما تأخرت الحرب كثرت الأوراق التفاوضية لديهم.
لا يشي المسار الأممي في التعاطي مع الشأن اليمني بهذه الركاكة والمخاتلة بوجود نية حقيقية وصادقة لحلحلة الأزمة، بقدر إطالتها والإمساك بخيوط الحرب والسلام والفوضى التي تزداد كلما زادت توجهات التعاطي العبثي الأممي تجاه الأزمة، والحرب معا.
ومن متابعة جهوده منذ تعيينه، وغريفيث لا يفتأ يلقي التصريحات المتفائلة، والبعيدة كل البعد، عن تعقيدات الواقع، فضلا عن عدم الاعتراف بهذه التعقيدات، مكرّرا مسيرة فشل سلفيه السابقين اللذين كانا يكثران مثل هذه التصريحات المتفائلة، ولا يعترفان بتعقيدات الواقع، ومن ثم الفشل إلا في لحظة انتهاء فترة عملهما، وكأن الأمر كان إطالة فترة عملهما، من أجل ما يتقاضيانه من رواتب وامتيازات في السفر والإقامة، ورحلاتهما المكوكية بين عواصم العالم.
وغريفيث يمضي على خطى سابقيه نفسها، مع فرق أنه يعتقد جازما أن جنسيته البريطانية وحدها يمكن أن تساعده في مهمته، وكأنها عصا سحرية، قد يصنع بها الحل السحري في لحظة ما يريد، غاضّا الطرف عن كل هذه التعقيدات، وفشل سلفيه الكبير في إنجاز أي شيء على صعيد الأزمة وحلها، أو حتى محاولة وضع لبناتٍ أوليةٍ، تأسيسية، يمكن البناء عليها.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
غير المنظور في الأزمة اليمنيّة
التنوير المجني عليه عربياً
إيران وإسرائيل وشفرة العلاقة