يقول أثرٌ عربي "يوشك أن يكون خير مال المرء غنم يتبع به شعفَ الجبال، ومواقع القطر"، يعود هذا النص إلى مئات السنين، إلى الزمن الذي كانت فيه الأرض صافية وفارغة، وكان العرب مجرد تجمعات حضرية صغيرة تحيط بها الرمال المتحركة من كل الجهات، إذا استعرنا من لغة محمد ج. الأنصاري.
مع الأيام سيزدحم الكوكب الصغير، المليء بالمياه والغابات، بمئات الملايين من البشر وستصحو العُزلة داخل الكائن. هناك اعتقاد علمي يقول إن الطفل، أي طفل، لا بد وأن يستوقفه منظر الصخور الكبيرة، والطرقات المؤدية إلى الكهوف. كانت تلك هي أماكنه القديمة، في البدايات. لقد اخترعت العُزلة باكراً جداً، وكانت نقيضاً للفناء.
في كتابه "فيزياء المُستقبل" يعتقد ميشيو كاكو أن الإنسان الحديث يقلقه الاطلاع على مكانه، أو إطالة النظر إليه. ذلك أن سلفه الغارق في القدم كان يبقي نفسه مختبئاً لا ليرقب العالم وحسب بل ليتمكن من الاصطياد. وقد كان انكشافه لا يعني فقط أنه صار معرضاً للخطر، بل فرار الطريدة أيضاً، وربما الموت جوعاً، بمعنى ما تُرادِفُ العزلةُ غريزةَ البقاء.
سيمر أبو العلاء المعري بحلب وأنطاكية ثم بغداد، فيرى جزءاً كبيراً من عالم ذلك الزمن، ثم يتخذ قراراً بالفرار، بالعزلة. يعود إلى قريته في معرة النعمان تاركاً للآخرين "الدنيا والآخرة"، كما سيصارحه صديقه المنازي الشاعر.
لم يكن المعري أول من اخترع العزلة، لكنه عثر عليها. فالعزلة لا تاريخ لها، كما يذهب غاستون باشلار. لكنه ربما كان الأكثر جسارة بزهده عن الآخرة أيضاً. اعتزل المعري، كما يُروى، حتى العسل. فهو يخرج من كائن، وفيما يبدو فقد اكتشف المعري أنه لم يعد قادراً على احتمال الكائن، كل الكائن، بكل أوزانه، ولا ما يصدر عنه، من أنبياء الأزمان القديمة حتى نحل القرون الوسطى. عاش ما يقرب من تسعين عاماً، وربما كان لتحوله إلى كائن معزول ونباتي دورٌ كبيرٌ في وصوله إلى تلك السن الكبيرة.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر سيقرر هنري ثورو، من أشهر الكتاب الأميركيين، الذهاب إلى الغابات، "لأواجه الحقائق المركزية للحياة"، يقول بالقرب من بحيرة "والدن" جلس، يراقب السفن، هجر أكل لحوم الحيوان، كما فعل المعري من قبل. سيؤمن ثورو بالغابات، وسيذهب حد القول: إن منازل الهنود المصنوعة من القش والأخشاب تمنح قدراً من الأمان والدفء لا توفره المنازل الإنجليزية في المدن.
في كتابه "والدن" سرد تجربته، استنتاجاته، الحقائق التي عثر عليها، وسيدين الإنسان الحديث. أي ذلك الإنسان الذي يقول، طبقاً لمشاهدة ثورو، إنه من غير الممكن بناء جسدٍ قوي من الخضار والفاكهة، لكنه يركض لاهثاً خلف ثورٍ بنى عظامه الصلبة من الحشائش. لن يموت ثورو في عزلته، كما فعل المعري، ولا كما فعل بطل همنغواي في "العجوز والبحر"، الذي انقطع إلى البحار ومات بالقرب من واحدٍ منها.
سيخترع ثورو فكرة عبقرية ستصبح واحدة من أكثر المعاني إلهاماً في القرن العشرين: الرفض الأهلي. تنادي الفكرة بحق الناس في الرفض الطقوسي لقوانين بعينها، مثل قوانين العبودية، وعدم الخضوع للسلطات في حالات معينة. عاد ثورو حاملاً في ذاكرته الكثير من "الحقائق المركزية للحياة"، وانخرط في حياة المُدن، وفي موجات الرفض الأهلي. لقد منحته العزلة الكثير، وآلمته.
لكن درويش، بعد أن تجاوز الستين، قال إنه لن يعود مرة أخرى إلى الحياة العامة. كان قد عاش زمناً طويلاً في مركز الضجيج، مما دفع أدونيس لوصفه بصديق كل الأنظمة. في حواره الشهير مع صحيفة الحياة، ????، أي قبل موته بثلاثة أعوام، اعترف درويش بأنه أهدر الكثير من وقته فيما لا يجدي.
اكتشف درويش العزلة متأخراً، واحتواها ثم أدمنها، طبقاً لتعبيره. فالعزلة هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك، يعتقد درويش. سنوات عزلته شهدت تصاعداً درامياً في أدائه الشعري بحثاً عن نصه النقي، أو أسطورته الشعرية. قبل موته بوقت قصير قال "من أنا لأقول لكم ما أقول لكم"، وكان نصاً شبيهاً بالتغريدة الأخيرة للبجعة. فالأمثولة تقول إن البجعة، حين تحسن بدنو أجلها، تعتزل مجتمعها وتصدر أجمل تغريداتها وتموت.
لا تبدو العزلة خياراً مريحاً، ربما ولا ممكناً، بالنسبة للفنان والمبدع. فقد سافر باولو كويهلو إلى سويسرا حاملاً الكاميرا والأشرطة وراح يستمع إلى بائعات الهوى، ليرجع بروايته "?? دقيقة". وكان تولستوي مراسلاً حربياً، وكذلك كان همنغواي. أما سارتر فكان يغرق في دخان المقاهي. ولم يكن العمل القذر الجميل "مدار السرطان"، حد وصف عزرا باوند، سوى واحد من تجليات الانغماس الشامل في حياة متشردة وضاجة كابدها هنري ميللر في منفاه الاختياري بباريس.
يبحث المبدع في وجوه الناس وانفعالاتهم عن قصصه. سبق أن حدثنا أمبرتو إيكو عن روائي فرنسي كان يجلس على كرسي بالقرب من ميدان عام، ليراقب الناس بحثاً عن رواية. يلاحظ الروائي العالم، تحتفظ ذاكرته وخياله بالصور والملامح. تتوتر الحكاية في ذاكرته كما يحدث للسهم قبل انطلاقه المباغت، يعتقد كويهلو. إذ يبدو الفن، والفيض الإبداعي، كحالة من العبور الرشيق والسريع في عالم مكتظ.
لا يملك الفن، ولا الفنان، ترف الهجرة إلى العزلة. في "اختراع العزلة" رسم بول أوستر بورتريه موحشاً لوالده، في سبيل إدانته للعزلة إجمالاً. عندما تلقى أوستر نبأ وفاة والده، وكان في منتصف الثلاثين من عمره، قال لنفسه: لقد مات أبي، ولكن لا ينبغي أن تتلاشى حياته من بعده.
بلغة مذهلة راح يدين لونَ العزلة الذي اختاره والده، قائلاً إنها لم تكن قط كعزلة "ثورو"، بل عزلة رجل مهزوم وخائف من العالم. في يوم ما سيزور بول أوستر وزوجته منزل الوالد، قبل رحيله، وسيرفعان الستائر وينظفان زجاج النوافذ. ما إن يعود الوالد ويرى النور قد غمر منزله من جديد حتى ينفجر فيهما غاضباً. ما من أحد داهمه حزنٌ على موت السيد أوستر، الوالد، حتى أصحابه. كان له أصدقاء قليلون، وأولئك ارتبكوا قليلاً أمام نبأ الوفاة، ذلك أنهم أدركوا أن الموت صار يتمشى بينهم أخيراً.
تفترض دراسة لناعومي آيزنبيرغر، متعلقة بنظرية تداخل الألم، أن التواصل الاجتماعي والعيش مع البشر، يخفف من الشعور بالألم. ذلك ما يدفع الأم، غريزياً، لاحتضان ولدها بعد إصابته بجرح. فهي تمنحه فيضاً عاطفياً يكفي ليخفف ألمه بدرجة كبيرة. يفترض العلم ميكانيزماً مشابهاً للعلاج بالمخدرات. فالعزلة تحرم الجسم من مخدراته الداخلية، وهي مكافئ موضوعي للألم المزمن. وقد لوحظ علمياً ميلاً متزايداً لإدمان المخدرات لدى المعزولين اجتماعياً، أو من اختاروا العزلة. كما لو أن الأمر يتعلق بالألم والعلاج.
كان مجنون ليلى، وقد اعتزل الناس، يعالج ألمه بالشعر"وما أنشد الأشعار إلا تداوياً"، طبقاً لاعترافه المدوي. ذلك ما سيفعله درويش والمعري من قبل.
أما ثورو، وقد اعتزل العالم لسنين قليلة، فقد عاد من عزلته واختار الناس كعلاج لألمٍ لم يصرح به قط. من جهة أخرى، أمام معادلة الحنين الغريزي للعزلة والجزع من ألمها، ابتكر ماركيز قرية "ماكوندو"، عزل فيها قوماً متخيلين وعاش هو مع الحقائق المركزية للحياة، مع الناس.
*مدونات الجزيرة
اقراء أيضاً
تفكك اليمن إلى مستعمرات ثلاث
العودة إلى تفاهة الشر
معضلات لا تستطيع القبة الحديدية حلّها