من وسط قطعة اليأس والظلام الهائلة التي أطبقت على ملايين المحبطين اليمنيين في العام 2015، انبثق شعاع "المقاومة الشعبية" التي نهضت بمبادرة تاريخية مبهرة من المجتمع، لأداء مهمة باهظة في توقيت عصيب، ثم أخذت تدخل على نحو تدرجي في الإطار الرسمي المؤلف من حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي والتحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات.
وشكل تكامل المقاومة مع الجيش الحكومي وعملية التحالف العسكرية قراراً صائباً وخياراً طبيعياً لإنفاذ مهام استعادة السيادة السياسية، وإعادة توظيفها في إنقاذ البلاد من جحيم الثورة المضادة والدفاع عن المجتمع من بطشها، ووقف كارثة الانهيار الشامل عند الحد الممكن، لكن التكامل المأمول انقلب إلى احتواءٍ من الطرف الأقوى، وتبعية من الطرف الأضعف.
في الإمكان تماماً تفهم الدوافع الاضطرارية لوحدة المقاومة مع الجهد الرسمي، انطلاقاً من حاجة المقاومين للسلاح والدعم اللوجيستي، في ظل اختلال ميزان التسلح والدعم لمصلحة قطبي الثورة المضادة، علي عبدالله صالح والحوثيين، بفوارق لا تقبل المقارنة، ولكن يصعب تفهم استسلامها لعملية الاحتواء والتفريط باستقلال قرارها.
بفعل إغراء الدعم، أملاً في تحقيق نتائج سريعة على الأرض، وربما بفعل ترهيب خفي من الإقليم، انتقلت المقاومة من خانة اللاعب الفاعل في المشهد، إلى موقع التابع من دون إبداء مقاومة، كان من المفروض تفعليها بتدابير مختلفة، والدفع بأفضل أوراقها إلى ميداني الحرب والسياسة.
وانجرّت المقاومة إلى هذا القرار، لافتقارها إلى استراتيجية عسكرية وسياسية، ولاعتقاد قادتها أن في وسعهم حسم الحرب بضربة واحدة، مع رهانهم على أن دعم التحالف سيكفل توجيه هذه الضربة. وقد نشأت غشاوة الرؤية هذه جرّاء عدم تحديد المقاومة، ابتداءً، لنوع الحرب التي ستخوضها في مواجهة القوات المعتدية، وعدم إفادتها من مبادئ الحروب الثورية، أو استلهام تجارب الحركات الثورية في مواجهة أنظمة الطغيان الداخلية والاحتلال الأجنبي.
وكان من المحبط ضعف حركة التسييس داخل المقاومة، ما حصر تصوّر قادتها، وغالبية أفرادها، لمفهوم المقاومة في العمل المسلح، إلى حد أنهم بعدما طردوا قوات الحوثيين وصالح من مناطق عدة، اختطفتها منهم الفوضى وعبث العصابات المسلحة، أما هم فلزموا تردّدهم، وأبقوا طموحهم عند مستوىً شديد التواضع، لم يفكّروا معه بتشغيل خدمة عامة معطلة، أو مرفق عام مغلق.
فبدلاً من إدارة المناطق المحرّرة وإقامة اقتصاد محلي فيها، بما في ذلك تدبر مصادر إيرادات، سبق لحركات مقاومة عبر العالم تدبرها في ظروف أشد تعقيداً من الظروف اليمنية، تشكلت صورة ساخرة وآسية في آن لمسلحين لا يكلون عن إغلاق الشوارع ونشر الفوضى الأمنية، واقتراف انتهاكات ضد المدنيين، كلما أرادوا الضغط على السلطات الحكومية (الغائبة أصلاً) لتحقيق مطالبهم. ويتوجه جزء كبير من اللوم في ذلك إلى القوى السياسية التي أدارت ظهرها للمقاومة، وأبت مساعدتها في وضع استراتيجية وأدبيات سياسية، وتمييزها عن باقي المجموعات المقاتلة في الميدان، وعن السلطة والتحالف.
وانقسمت القوى السياسية في تعاملها مع المقاومة إلى قسمين: قوى تعاملت معها بتعالٍ، وصنفتها في خانة المليشيات من دون تمييز. وفي وقتٍ ظنت هذه القوى العازلة نفسها في أبراج الاستعلاء موقفها انتصاراً للمدنية والسياسة السلمية، تكفلت الأيام بإيضاح غباء التقدير الذي أفرز ذلك الموقف. أما القسم الثاني، فوجد في المقاومة باباً جديداً لمصالح مختلفة، فاستثمر فيها إلى أقصى حد. وما دامت المصالح الفئوية هي النافذة التي نظرت منها هذه القوى إلى المقاومة، فقد شكلت الرغبة الرسمية في احتوائها فرصةً، بالطبع، للمساومة على أفضل المصالح الممكنة. وهكذا جرى بتعاضد هذين العاملين ترك المقاومة وحيدةً أمام رغبة الاحتواء الرسمية، وحرمانها من خبرات التخطيط العسكري والسياسي.
كذلك خدشت صورة المقاومة ممارسات منحرفة، اخترقت مشروعها، محمولة على أفرادٍ حملوا السلاح، للدفاع عن مكانتهم الاجتماعية، أو لحماية مصالح معزولة عن الهم العام. ومع تدفق السلاح والمال عليهم، غدوا قادة فصائل قوية، غالباً ما ارتكبت تلك الممارسات التي شكلت أحد أسباب تحوّل المزاج الشعبي من الإسناد اللامحدود للمقاومين بكل ما في أيدي المواطنين إلى الاستياء، وصولاً إلى حالة اللامبالاة والعزوف عن المشاركة.
وأخيراً، اندمج المقاومون في الجيش الحكومي، في حين توقف التحاق الأفراد بالمقاومة الشعبية المستقلة، ما أفرغ كيانها المادي عملياً، قبل أن تكمل تحقيق مهامها المفترضة. ونتيجة ذلك كله، بدأت المقاومة في دفع الثمن، فكانت أول وأقسى ضربة تلقتها، جرّاء رضوخها التام لعملية الاحتواء السلطوية، الداخلية والخارجية، أنها غدت غير قادرة على طرد الأجسام الغريبة التي أسكنتها سلطة التحالف في بنيتها. وللفداحة، تلك الأجسام مشبوهة وموصومة بالإرهاب. وفي أحسن الأحوال، هي أجسام متطرّفة، أو محافظة، تقاتل لتمكين غاياتٍ معاديةٍ لتقدم المجتمع وحريته، وكذا هي لا تعبأ بالقانون العام، والتنافس السياسي السلمي، بل تنهج سبيل العنف، لفرض مشروعها وصبغ المجتمع بصبغة الحق الذي تعتقد أنها مندوبته في الأرض.
لم يصنع التحالف العربي تلك الجماعات، إنما وجدها تقاتل في الميدان وراء أغراضها، فاتصل بها، ولمس جاهزيتها فهيأ لها المسرح، ثم اتخذها وكيلاً له، لتحقيق أهدافه التكتيكية خلال الحرب. وفي حال أوفت بمعايير الوكلاء الذين تريدهم الأنظمة المحاربة في اليمن، فسوف تنال المباركة ومواصلة الدعم.
بعد اندفاع المجموعات المقاتلة ذات الأهداف المريبة إلى كيان المقاومة، وإقامتها في واجهة الصورة، ورد الإملاء التالي من التحالف، وفُرض هذه المرة على "المقاومة الجنوبية" التي وجب عليها، منذ مطلع 2018، احتضان أشتات الجحافل العسكرية الموالية للرئيس السابق، علي عبدالله صالح، والسهر على معسكرها التجميعي في عدن التي سبق لهذه الجحافل أن دمرتها خلال صيف 2015، وشرّدت سكانها أو قتلتهم.
ولئن كان لمأزق المقاومة أسبابه الذاتية المطروقة آنفاً، فله أيضاً سبب موضوعي كبير؛ إذ لا يحتاج إلى إثبات أنها وجه آخر لثورة فبراير/ شباط الشعبية 2011، وامتداد لها. ومثلما كانت هذه الثورة فتحاً مذهلاً في تاريخ النضال الشعبي السلمي، كانت المقاومة أداة الجموع الشعبية لدفع أضخم اعتداء شنه الماضي الحقود لمعاقبة المستقبل، لأنه تحرّر من إساره.
ولذا لم يكن من حسن حظ المقاومة أن حملتها الضرورة على العمل مع زعيمتي التحالف العربي: السعودية والإمارات، فليست مفاجِئة الدفعات المتعاقبة من الترتيبات لإعادة الوضع إلى ما قبل العام 2011 في البلدان التي شبت فيها ثورات شعبية وإدانة تلك الثورات، بل هي تتمة للتحرّكات التي انطلقت مع اندلاع هذه الثورات التي تقود السعودية والإمارات الحلف الإقليمي المضاد لها، وبينما تعملان في بلدان الثورات، بتكتيك مواجهة "الثورة" في ميادينها، ووأد أي تغييراتٍ تترتب عليها، فإنهما في اليمن تعملان لمواجهة تهديدين، كل منهما مصيري في حساباتهما.
الأول، الثورة الشعبية، وانتصارها في اليمن أدعى إلى تحريض شعوب الخليج على التحرك خلف حقوقها السياسية والاجتماعية المحظورة، نتيجة للتأثير الجيوسياسي المتبادل بين اليمن ودول الخليج، خصوصاً السعودية، وكذا العلاقات التاريخية بين شعوب هذه البلدان. والثاني، التهديد الإيراني المحمول على الحركة الحوثية التي تنشط من معقلها المشرف على الجنوب السعودي.
وقد دفع التهديدان السعودية والإمارات إلى ثلاث خطوات: انطلقت الأولى عقب اندلاع الثورات العربية في 2011، ورمت إلى هدم نموذج الثورة الشعبية وتشويهه في وعي شعوب الخليج، برسم صورة قاتمة عما آلت إليه الأوضاع في البلدان الثائرة، وتحذير مواطنيها من محاكاة ما حدث، وما زال الإعلام الرسمي في البلدان المعادية للثورة يعمل على ترسيخ هذه الصورة في أذهان مواطنيه. وركزت الخطوة الثانية من الأنظمة المعادية للثورة العربية على إجهاض عملية الانتقال الديمقراطي في بلدان الثورات، وعرقلة أي إنجازات اقتصادية أو اجتماعية تحققه حكومات الثورات العربية، وذلك لتقديم دليل ملموس لمواطنيها يدعم اتهامها هذه الثورات بجلب الدمار ونسف الاستقرار.
وفي الوقت الذي تمكّنت إجراءات الحلف المضاد للثورة الشعبية من وقف مهام الثورة، بمساعدة مجانية من الحكومات "الثورية"، بدأ يتضح، على نحو تدرجّي، أن سياسة التدخل المضادة في اليمن كانت سلاحاً ذا حدين: حارب أحدهما من صعدة حتى العاصمة صنعاء التي أسقطها، ووضع نظامها وحكومتها تحت سلطته المتعطشة لمزيد من الدم. وراح الثاني يناور على حدود السعودية، ويوقع الاتفاقات مع طهران؛ العدو الإقليمي اللدود.
ولذلك، كان لا بد من خطوة ثالثة إضافية في اليمن، لتصحيح ورطة الحلف المضاد للثورة، بزعامة السعودية التي لم يعد التهديد الإيراني محتاجاً إلى خرائط تجسّسية لتحليلها في طهران، بل غدا يرقب جنوبها من على قمم المرتفعات الشاهقة في صعدة، فانطلق التدخل العسكري في مارس/ آذار 2015 لتدمير الحركة الحوثية، أملاً في شل الذراع الإيرانية.
وفرضت هذه التداعيات المتناقضة على السعودية والإمارات التحرّك بحذر مصحوب بالتوجس والريبة؛ فهما يريدان للتدخل العسكري تحقيق هدفه، من دون تقديم مساعدة، وذلك لمخاوفهما الكامنة في الثورة الشعبية. ولذلك انتدبت الإمارات الجماعات السلفية في محافظات الجنوب، فيما تتنامى المؤشرات على توجه السعودية إلى انتداب حزب المؤتمر الشعبي ورجالات صالح في محافظات الشمال، إذا ضمنت أنهم قد نزعوا أيديهم من أيدي الحوثيين، واستأنفوا سيرتهم المهذبة السابقة مع المملكة.
يسهل، بعد هذا العرض الوجيز لموقف التحالف العربي في اليمن، قبل عمليته العسكرية، الخلاص إلى أن التحالف والمقاومة الشعبية، بحكم طبيعتيهما، يمثلان نقيضين، جمعتهما الضرورة للعمل على أرضية واحدة، فلزم أحدهما محاذيره ومخاوفه، ومنح الآخر ثقته بلا أي تحفظات أو مراجعات. والسؤال الآن هو ما إذا كان مستقبل المقاومة واستعادة مشروعها أمرا يثور في عقول قادتها وباقي المهتمين؟
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
الموقف في مأرب
كي لا نخسر الحرب
انقشاع وهم قادة الانتقالي