ذات مساء، وتحديدا في مطلع ابريل من العام 2014، كنت أتصفح كالعادة وسائل التواصل الإجتماعي. شاهدت في صفحة أحد الأصدقاء بالفيس بوك، مقطع فيديو، لشابٍ وهو ينشد بأبيات روحانية جميلة، لم أسمع بمثلها قط في حياتي، مطلعها "سُعيدوه من عرف ربي سُعيدوه.. مسك حبل الغنى والعز بيدُه...وبات الخير كل الخير عندُه...يهنيه ويسعدُه ربي ويزيدُه...الخ"
أذهلتني تلك المقطوعة، التي كسرت روتين الأناشيد، وخاصة تلك التي يُقال أنها إسلامية، رغم أنها لطفل لا يزال صغيرا، بدا بهيئته الطبيعية، بعيدة عن أصناف التنطع والتمظهر الغير اللائق، والتصوير كان بتليفون عادي؛ بيد أن صدق صاحب الكلمات، والطفل الذي أداها، جعل لها من القبول والانتشار الواسع، ما لا يتصوره أحد.
منذ سمعت تلك الأبيات، وأنا أتردد بين كل وقت وأخر على سماع تلك المقطوعة الإنشادية؛ فكلما كنت أحس بالتعب، أبحث عن ذلك الصوت في اليوتيوب، وأعيد سماعها من ذلك الطفل الممزوج بالبراءة والطفولة، مرات ومرات، دون كللٍ أو ملل.
لم أعرف اسم ذلك الطفل حينها، أو محافظته، - كنت اعتقد أنه من الحديدة، لظني أن تلك اللهجة التي أنشد بها قريبة من اللهجة التهامية - بل لم أعد أسمع عنه إطلاقا، وكنت أتسائل: يا تُرى أين استقر به المقام، وهو الطفل المبدع الذي سيكون له في المستقبل شأن كبير، خصوصا إذا وجد من يرعى موهبته وينميّها؟.
كانت الصدمة، التي لم أتوقعها، أن ذلك الشاب، قد أضحى حديث وسائل الإعلام، والناشطين في مختلف وسائل التواصل الإجتماعي؛ ليس لأنه قد نمّى موهبته، وأصبح منشدا يُشار إليه بالبنان؛ بل لأنه قد أضحى قتيلا، على يد عصابة حاولت اقتحام مركز امتحاني، أمس الأحد، في مديرية الشمايتين بمحافظة تعز، حيث تم انتدابه للعمل كمتطوع للإشراف على أحد المراكز الإمتحانية هناك.
ولمّا رفض السماح لأحد أولياء أمور الطالبات بالغش - وفقا لما ذكره ناشطون على وسائل التواصل الإجتماعي - ذهب ولي أمر الطالبة، وعاد بعصابة اقتحمت المركز، وقتلت الشاب المبدع "هارون التميمي"، صاحب تلك الأنشودة التي لم أنساها إلى اليوم، وهي "سُعيدوه من عرف ربي سُعيدوه".
كم تألمت وأنا أرى صورة الشاب هارون التميمي، وقد أضحى مُسجى على فراش الموت، بعد تلقى صدره عدة رصاصات غادره من أحد أولياء أمور الطالبات، توفي إثرها على الفور، خصوصا وأني رأيت على التو في صفحات كثير من الأصدقاء، صور هارون، وكيف كان قد اشتدّ عوده، وأضحى في عنفوان شبابه.
وما أثار حزني كذلك، هو معرفتي، أنه عاد إلى منطقته قبل أسابيع قليله، من دولة السودان الشقيقة، والتي كان يدرس فيها تخصص هندسة نفط، وكان ينظر الى المستقبل، بعين الشاب القائد والناجح؛ إلا أن المصير المحتوم كان في انتظاره، وهو يؤدي واجبه الوطني، كمشرفٍ للعملية الإمتحانية.
إذ حَتمّ عليه واجبه، عدم التقصير في مهمته، والسماح بظاهرة الغش التي انتشرت للأسف مؤخرا كانتشار النار في الهشيم، وبات من يمنع هذه الظاهرة، كأنه مُدانٌ يستحق عقوبة القتل، كما حصل مع الشاب هارون.
عدت بالذاكرة، إلى إحدى المرات، حين كنت أشاهد مقطوعته الإنشادية في اليوتيوب، وأقرأ التعليقات على الفيديو، ولفت انتباهي حجم الإشادة الكبيرة، والإطراء، التي وجدها "هارون" من المعلقين الذين ينتمون الى جنسيات مختلفة، داعيين الجهات الحكومية إلى تبني هذه الموهبة وعدم إهمالها.
في هذا الصدد، لا أزال أتذكر، أن مدير شبكة قناة المجد، - لم أعد أتذكر اسمه - أعلن من خلال تعليق له في اليوتيوب، تبرعه للطفل المبدع "هارون التميمي"، بمبلغ عشرة آلاف سعودي، مع فيزه للدخول إلى المملكة العربية السعودية لأداء العمرة مجانا، وبالفعل تم التواصل من خلال التعليقات مع أحد أقاربه، واستلم المبلغ، وذهب لأداء العمرة، مكافأة له على تلك الموهبة العظيمة، التي وُأدت بفعل عصابات الإجرام، وهي في قمة العطاء والإبداع.
أكتب هذه الكلمات، وأنا لا أعرف الشاب هارون شخصيا، بيد ان مقطوعته تلك الإنشادية، جعلتنا ولا نزال نتذكره على الدوام، والتي مثّلت له الأثر ولسان الصدق، التي توّج بها حياته، رغم قصرها؛ إلا أنها كافية للقاء ربه الذي تمنى أن يلقاه وهو سعيدا، كما قال في أخر مقطوعته الإنشادية:
قريب ما أقربك يا ربّ منّي
وقل يارب وألقاك عند ظني
أنا احبك وشانشد لك واغني
وعبدك ما معه سوى نشيدُوه
أنا عبدك وما فيش عبد يحنب
وقل يارب واسترجاك بالباب
تردوه وهو يقول: يارب يارب
وانت اللي دعاك وايحين تردوه
رحمك الله يا هارون التميمي رحمة الأبرار، وأسكنك مساكن الأخيار، عزاؤنا لأهلك وأحبابك وزملاؤك وأصدقاؤك، إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا لنقول ما نرضي ربنا، انا لله وانا اليه راجعون.
اقراء أيضاً