مرّت، أخيراً، الذكرى الـ53 لثورة 14 أكتوبر 1963 في اليمن، وهي واحدة من الثورات العربية الكبرى ضد الاستعمار البريطاني الذي كان يتخذ من عدن جوهرة التاج البريطاني، كما أطلق عليها حينها، قاعدة تجارية وعسكرية استعمارية مهمة، منذ سقوطها بيد الأسطول البريطاني في عام 1839، وحتى خروج آخر بريطاني من عدن عام 1967، أي ما يقارب قرنا وربع قرن.
كانت عدن محطةً متقدمةً لبريطانيا في ترسيخ وجودها الإمبريالي في المنطقة العربية وشرق أفريقيا والخليج العربي، للمكانة الفريدة التي تمتلكها عدن، والتي ظلت، قرناً وربع القرن، خاضعة للبريطانيين، مستسلمةً لقدرها ومصيرها حتى منتصف القرن التاسع عشر، حينما بدأت بوادر النهوض القومي العربي بالتمدّد إلى عدن، وبداية تشكل الوعي العمالي فالسياسي، بفعل التطوّر الطبيعي للمجتمع العدني، مع بداية التوسع والتطور الاقتصادي الذي شهدته مستعمرة عدن فيما بعد عام 1945.
ليست هذه السطور بصدد سرديةٍ تاريخيةٍ، بقدر ما ستلقي نظرة سريعة ومقتضبة لمخاضات واحدةٍ من أهم ثورات اليمنيين، تضيء على التطورات السياسية والاجتماعية التي مهدت لتفجر هذه الثورة التي غيرت مسار اليمنيين وحياتهم، إلى جانب ثورة "26 سبتمبر"، باعتبارهما ثورة واحدة في الهدف، ومتكاملتين في الوسائل والآليات. ولم يكن من الممكن نجاح إحداهما بمعزل عن الأخرى، وأن مناخ نجاح الثورتين كان مرهوناً بتوفر الشروط الموضوعية للواقع الاجتماعي الذي فجرهما.
ففي 1942، بدأت أولى خطوات تشكل الاتحادات العمالية في عدن، والتي كان أولها تشكيل اتحاد 11 مرشداً بحرياً أوروبيا، وما إن جاء عام 1956، وإلا وهناك ما يقارب 21 اتحاداً عمالياً في عدن، تضم في صفوفها أكثر من ثلاثين ألف عامل يمني، فكانت هذه الاتحادات النقابية والعمالية بمثابة الأرضية الخصبة والخميرة الرئيسية للثورة فيما بعد، بفعل زيادة الوعي الحقوقي فالسياسي لهؤلاء العمال الذين تعرّضوا للتعسف والظلم والتمييز من السلطات الاستعمارية، فيما يتعلق بتراخيص العمل والإقامة في عدن، لما كانوا يسمون عمال المحميات واليمن الشمالي حينها، عدا عن حرمانهم مع حقوقهم الانتخابية في عدن، والتي كانت معظم قاعدتها العمالية وقيادتها تنحدر من المناطق الشمالية.
في الطرف الآخر للمعادلة السياسية هذه التي بدأت تتشكل في عدن، كان هناك دور كبير وبارز للعنصر الحضرمي، ومنهم العائدون من المهاجر والمغتربات الخارجية في إندونيسيا، متأثرين بالحركة القومية الإندونيسية، وكذا العائدون من بريطانيا وشرق أفريقيا، والذين بدأوا ينظمون دورهم السياسي منذ عام 1927 مروراً بدعوات المطالبة من لجنة الإصلاح الإندونيسية -الحضرمية السلطات البريطانية بالاعتراف بحضرموت، واستقلالها في إطار الوطن اليمني، ومع هذا، لم تتبلور الحركة السياسية، بشكلها الوطني العام، إلا فيما بعد عام 1945، حيث بدأت تشهد عدن بداية تشكل الأندية الثقافية والسياسية، وبداية إصدار الصحف العربية التي بدأت أولى خطوات الحراك السياسي، فيما يتعلق بالمطالب الإصلاحية والأفكار القومية وحقوق المرأة والحاجة للتعليم وغيرها.
كيانات سياسية
في عام 1950، تأسّست الجمعية العدنية صاحبة شعار "عدن للعدنيين" أول إطار سياسي في عدن، وكانت هذه الجمعية التي أصدرت حينها صحيفةً تتماهى كثيراً مع السياسات البريطانية فيما يتعلق بوضع عدن، والإجراءات المتّخذة من البريطانيين تجاه كل من أتى من خارج عدن من المحميات، أو من الشمال. لكن أمام هذه التماهي مع البريطانيين، ظهر أمام ذلك في عام 1952جماعة النهضة، والتي أصدرت صحيفة النهضة، وطالبت بتوحيد الجنوب في دولةٍ واحدةٍ، و إزالة الفوارق بين عدن والداخل، من خلال القضاء على سلطة السلاطين، كما دعت إلى توحيد الشمال والجنوب، وطالبت، بدلاً عن الحكم التقليدي، بإنشاء مجالس محلية، لها عاصمة اتحادية هي عدن.
لم ترُق هذه المطالب للبريطانيين الذين رأوا ذلك تحدياً لهم، فمنعوا عام 1953 صدور "النهضة"، لكن الجماعة نفسها أصدرت عام 1954 مجلة الفجر التي دعت إلى وحدة الجنوب داخلياً، وإلى وحدة الجنوب والشمال، وكشفت "الفجر" بذلك عن وجود جماعةٍ سياسيةٍ كبيرة تقف خلف هذه المطالب، وهو ما تمثل حينها برابطة أبناء الجنوب العربي بدايةً، وتشكّل بعد ذلك كيان جديد تحت مسمى الجبهة الوطنية المتحدة عام 1955، مطالبةً بمقاطعة الانتخابات النيابية التي كانت تقيمها السلطات البريطانية. وقد تشكلت هذه الجبهة، نتيجة الانشقاقات التي حدثت في كل من الجمعية العدنية ورابطة أبناء الجنوب الذين رأوا تلاعباً بريطانياً واضحاً بمطالبهم المتمثلة بالاستقلال وتوحيد اليمن. وهنا، وجدت بريطانيا نفسها، أول مرة، أمام معارضةٍ تشكل تحدياً حقيقياً لوجودها.
في الطرف المقابل لهذه المعادلة، كان هناك الإعلان عن تأسيس حركة اتحاد العمال التي، بحسب المؤرخ اليساري البريطاني، فريد هاليدي، في كتابه "الصراعات السياسية في شبه الجزيرة العربية"، كانت من أكثر الحركات العمالية تطرفاً ثورياً وقومياً في العالم العربي، لنمو تيارات ثوريةٍ وقوميةٍ في صفوفها، ولأنها استوعبت العمال اليمنيين، جنوبيين وشماليين، على حد سواء، ورفضت الأشكال السياسية القائمة على أساس شطري، إذ كانت قاعدة الانتماء إليها على أسس هوية وطنية يمنية، وعلى أساس هوية طبقية، أي عمالية.
وكانت بريطانيا ترقب كل هذه التحولات، بذهول وخوف شديد، وتدرك خطورة ما ستؤول إليه الأمور، فقرّرت مواجهة هذه الخطوات بخطواتٍ سياسيةٍ خبيثةٍ، وهو ما تمثل بإعلانها عن مسمى اتحاد الجنوب العربي، نهاية الخمسينيات، لمواجهة الحركة العمالية العدنية، وضرورة دمج مستعمرة عدن في إطار هذا الاتحاد، وفقا لمعاهدة لندن بين البريطانيين وحزب الجبهة الوطنية المتحدة، وكانت خطوة دمج عدن بالداخل خطوةً لمواجهة قوة الاتحادات العمالية التي بدأت تقود الجماهير في عدن، وتقيم الإضرابات والمظاهرات المطالبة بحقوقهم العمالية، وصولاً إلى الاستقلال.
بيد أن الصراع السياسي، حينها، وصل إلى حد أن شكل الاتحاد العمالي حزب الشعب الاشتراكي، بديلاً عن الجبهة الوطنية المتحدة التي وقعت مع بريطانيا اتفاقية لندن، بخصوص دمج عدن في الداخل، خطوةً لضرب المطالب العمالية المسيسة حينها، من خلال إيجاد مواجهةٍ مباشرة بين الاتحادات العمالية والقوى المشيخية والسلطانية في المحميات.
الجبهة القومية
ومع هذا، كان كلّ هذا النضال المدني العمالي يدور في إطار مستعمرة عدن المفصولة والمعزولة عن المحميات، وعن الداخل اليمني عموماً شمالا وجنوباً، وهو ما جعل الصراع والنضال يدور في إطار الصراع الأشبه بأيّ صراعٍ بين السلطة الحاكمة ومعارضيها، أي أنه كان صراعاً مدنياً بحتاً، ولم يكتسب هذا النضال بعده الوطني الكبير، إلا مع بروز الكيانات الوطنية الكبيرة والقومية، والتي بدأت بالظهور بعيد إطاحة النظام الإمامي في صنعاء مباشرة، وحصول الجبهة القومية على موطئ قدم في تعز ومناطق الشمال التي كانت بعيدةً عن الاقتتال الجمهوري الملكي حينها، والتي أعلن عن تشكيلها تحت مسمى الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل.
صحيحٌ أن الجبهة القومية كانت قد بدأت في الخمسينيات، وبطابعها الناصري الذي تزامن مع بروز نجم الزعيم العربي جمال عبد الناصر. لكن، ما إن حلت الستينيات، حتى وصل الصراع بين الجبهة القومية والناصريين إلى مرحلة المفاصلة والانفصال. وهكذا بدأت أولى خلايا الجبهة القومية في عدن في مدرسة عدن الثانوية العامة، والتي تخرج منها محمد علي هيثم وعلي سالم البيض، وغيرهم من القوميين العرب حينها، ممن انخرطوا في النضال المسلح ضد الاستعمار في الجنوب والإمامة في الشمال.
لم تأخذ الجبهة طابعها الوطني العام، إلا من خلال الصلات والروابط التي ظلت تربطها مع الداخل اليمني شمالاً وجنوباً، على عكس ما كان عليه الحال في المؤتمر العمالي وحزب الشعب الاشتراكي اللذين ظلا محصورين بعدن، ومعزولين عن محيطهما الوطني شمالاً وجنوباً. وهذا هو الفارق الذي جعل من نضال الجبهة القومية أكثر تأثيراً من غيرها، بالنظر أيضاً إلى طبيعة القوى التي اتحدت تحت مظلة الجبهة القومية، من كل مناطق المحميات والشمال على حد سواء، وأعلن عن أول نبأ عن الجبهة القومية من إذاعة صنعاء في 20 يونيو/ حزيران 1963، في الوقت الذي صدر بيان من القاهرة عن الرئيسين، عبد الناصر وعبدالله السلال، حول حق الشعب اليمني في الشمال والجنوب بالاستقلال والوحدة.
عقد أول مؤتمر للجبهة القومية، بعد عام من تشكيلها في 22-25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1965، في مدينة تعز التي ظلت المنطلق الرئيسي للجبهة في نضالها شمالاً وجنوباً، حيث كثيرون من أعضاء الجبهة، أفراداً وقيادات، شاركت في القتال، شمالاً ضد الفلول الإمامية، وجنوباً ضد المستعمر البريطاني الذي ظل يدعم الملكيين شمالاً أيضاً، ما وحّد مصيرية ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وجعل انتصار إحداهما انتصاراً للآخر. وهذا ما تم فعلاً بعد ذلك، من خلال تفجر الجنوب اليمني نضالاً مسلحاً ضد بريطانيا التي كانت داعماً رئيسياً لعودة الملكيين في صنعاء، وبالتالي ضعف الإمامين بعد انسحاب البريطانيين في نوفمبر/ تشرين الثاني 1967.
بعد نصف قرن
أما اليوم، ومن خلال هذه السردية المختصرة، وبعد مرور نصف قرن من تلك الثورة الخالدة، واليمنيون ما زالوا عالقين في مربع اللحظة الأولى، ولم يتجاوزها بعد، وهي البحث عن الدولة ومضامينها الدستورية والقانونية التي تنعكس عدالةً وحريةً وكرامةً وأمناً واستقراراً على مواطنيها، وهو ما يقودنا إلى البحث مجدّدا عن مكامن الفشل والأخطاء التي قادت إلى هذا الوضع الشاذ وغير الطبيعي لنضال عقود من التضحيات والتطور الاجتماعي والسياسي الذي كان ينبغي أن يعكس واقعاً سياسياً أفضل مما هو كائن وموجود حالياً.
من خلال هذه السردية، لا نتوخى سوى التذكير بتلك المضامين الكبيرة التي يحاول بعضهم اليوم القفز عليها. وفي مقدمتها الهوية اليمنية الوطنية لهذه الجغرافية، ونظامها الجمهوري التي كانت وستظل من ثوابت التاريخ والجغرافيا، مهما حاول طائشون القفز فوق هذا الحقائق الكبيرة، والتي لم تكن يومأً عائقاً للنهوض، بقدر ما مثلت مادةً خصبةً لهذا النهوض، حينما يتم توظيفها التوظيف السليم والموضوعي، وأن كل المشاريع الصغيرة لم يكتب لها التاريخ النجاح والاستمرار، على حساب المشروع الوطني الجامع، مثل مشروع العصبة العدنية، أو مشروع رابطة أبناء الجنوب أو المشروع الإمامي في الشمال.
خرجت بريطانيا، بكل أسطوريتها وقوتها، من جنوب اليمن، تاركةً الجنوب اليمني مقسماً بين 21 مشيخة وسلطنة ودويلة، كل منها لها علمها الخاص وجوازها الخاص، ووضعها السيادي الخاص. ومع هذا، لم تكن ثورة "14 أكتوبر" لطرد المستعمر فحسب، بل ثورةً وحّدت الجنوب اليمني كله في إطار كيانٍ سياسيٍّ واحدٍ معترفٍ به دولياً وإقليماً. هذا الكيان الذي ظل حاملاً فكرة الوحدة اليمنية، حتى تحققت في مايو/ أيار 1990 كإرادة وطنية شعبية، وليست مجرد مشروع نخب حاكمةٍ ستنتهي الوحدة برحيلها.
إن أي دعوة اليوم لتجاوز هذه الحقائق التاريخية ليست سوى دعواتٍ طفولية غير مسؤولة، لن يكتب لها النجاح، وإنما ستدفع إلى مزيد من الاقتتال والصراع الذي سينتهي بتشظي الوطن كله، شماله وجنوبه، وإن الطريق اليوم إلى استعادة تلك المضامين النضالية الكبيرة، تحتم الذهاب نحو يمنٍ اتحادي يضمن لكل اليمنيين شراكةً حقيقةً في دولةٍ حقيقيةٍ، في صناعة هذا التحول الوطني، والحفاظ على كيان الجغرافيا اليمنية وهويتها من التشظي، والعودة ليس إلى ما قبل مايو/ أيار 1990، وإنما إلى ما قبل 26 سبتمبر/ أيلول 1962شمالاً و14 أكتوبر/ تشرين الأول 1963 جنوباً.
لم تعد تأثيرات ما يمر به اليمن، اليوم، من تحولاتٍ كبيرةٍ، لم يعد تأثيرها مقتصراً على الحالة الوطنية الداخلية، وإنما أصبحت مرتبطةً بالمشهد العربي العام، وأي تهديد لها، هو تهديد للأمن القومي الخليجي والعربي عموماً. وبالتالي، كل المشاريع الصغيرة هي بمثابة مهددات حقيقة، لمنظومة الأمن الوطني، والقومي الخليجي، والعربي عموماً، وإن الخروج من هذا المأزق مرهونٌ بمدى التصدّي لهذه المشاريع الصغيرة التي تمثل أدواتٍ حقيقيةً في يد المشروع الإيراني، والغربي عموماً، لتفتيت المنطقة العربية كلها إلى دويلاتٍ طائفيةٍ وقبائلية ما قبل الوطنية.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
غير المنظور في الأزمة اليمنيّة
التنوير المجني عليه عربياً
إيران وإسرائيل وشفرة العلاقة