سنة 1998، مطلع الربيع، أبلغتني مدرسة 26 سبتمبر أن إدارتها ستقيم احتفالاً لتكريم الطالب "مروان"، الذي كان أحد العشرة الأوائل على مستوى الجمهورية. سألني مدير المدرسة، آنذاك: كارم محمود، إن كنتُ أحب أن ألقي كلمة في الاحتفالية فهززت رأسي. قال، وهو يخفي ابتسامة غامضة "أعرف الكثير عن نشاطك السياسي، أرجو أن لا تكون الكلمة سياسية". قلت للمدير، متجاهلاً الكرة التي دحرجها: سألقي قصيدة.
أمسكت بالمايكروفون، وكانت ساحة المدرسة مكتظة على نحو مهيب، وقلتُ: اسمحوا لي أن ألقي عليكم قصيدة بعنوان "ساعة النجوى" للشاعر والمعلم والصديق: محمد نعمان الحكيمي. صفق الطلبة الذين كانوا يعرفون معلم الانجليزية "نعمان"، وصفق معهم الباقون. أما مدير المدرسة، الذي اكتشف للتو أن معلم الانجليزية يكتب القصائد، فقد هب واقفاً وذهب يتلفت. مضيتُ في إلقاء القصيدة، وتنقلت بهدوء بين الأبيات الشعرية التي أعرفها جيداً. نادى كارم محمود بصوته الثخين والمميز: يا محمد نعمان، تعالَ واقرأ القصيدة بنفسك.
قلت لمحمد نعمان الحكيمي، وهو يقف أمام معهد الكندي: ألا تخاف من الحب؟ قال، بالانجليزية: ليس بمقدوري أن أقع في غرامهن كلهن. كان يحول اللغة الإنجليزية إلى قصيدة، ويحدثنا طويلاً عن "روبنسون كروزو، وأولي?ر تويست"، عندما كان المنهج الدراسي يدور حول "ألي هوشبي". أحببت اللغة العربية على طريقة المعلم نعمان. في مرة قال له البروفيسور تواري، أستاذ الأدب الانجليزي في جامعة تعز قبل ربع قرن: انظر يا نعمان إلى الفرق بين "واي ديد يو ليي? مي" و: ليماذا تاراكتني؟ كان تواري يرتل الجملة العربية، لماذا تركتني، على طريقة النساك. لقد عشق اللغة العربية على طريقة نعمان، تلميذه.
قبل أيام كتب صديقي نعمان عن نفسه: أنا صعبٌ، حتى في مرضي.
كنا ثلاثة من الأصدقاء، إياد وأنا والمعلم محمد نعمان. توفي صديقي إياد، طالب الهندسة، عندما وصلت إلى السنة الثالثة في كلية الطب. أما محمد نعمان فبقي في تعز يكتب الشعر، ويفوز بالجوائز، ويصارع المرض. في أول درس ألقاه علينا وقف المعلم نعمان أمام السبورة وقال بنبرة دافئة، باللغة الانجليزية: عبثاً تتكلم هذه الكلمات، إلى متى سأكابد الوهن والوجع. استمر الحكيمي يلقي القصيدة من ذاكرته، ولما انتهى من الإلقاء قال إنه كتب النص وقت قصير. لم يكن المعلم نعمان قد تجاوز الثلاثين من عمره في ذلك النهار.
في "الراحة" رأيته في ممر الدور الثاني، وهرعت إليه. كنت قد انتهيت من كتابة مجموعة شعرية عمودية بعنوان "دوحة الأمل". سألته: منذ متى تكتب الشعر؟ فقال المعلم نعمان "تودين أن تحبلي بالضياء"، ثم وضع يده على كتفي ومضينا في الطريق. قال: هذه قصيدة كتبتها قبل أيام، هل تحب أن تقرأها؟ لكنه فضل أن يلقيها ونحن نمشي.
في الدرس الثاني، في الأسبوع الأول، طلب منا المعلم نعمان أن نكتب قصة قصيرة، بالانجليزية، تنتهي بجملة "وانقشع الضباب". كتبت القصة على سطح منزل الجد في وادي الضباب، وقرأها المعلم نعمان في اليوم الثاني. أعجب بالفكرة وطلب مني إلقاءها. بعد فراغي من القصة قام إياد وأبدى ملاحظاته حول اللغة و"الأسلوب". توقف المعلم نعمان عن الكلام للحظات، وقرر للتو أن يكون صديقاً لنا، إياد والطالب الآخر.
تاهت السبل، وذهبنا إلى الدنيا. مات إياد في حادث سير وهو يحلم بلقب المهندس. قال لي، صباح اليوم الذي سنؤدي فيه امتحان "البيولوجيا": لا أحتمل البيولوجيا، وكان شجاعاً في اختياره. أما المعلم نعمان فغلبه طبعه الصوفي، وعاش شاعراً وحيداً. لم يمض وقت طويل حتى اكتشف نعمان أنه مصاب بمرض ماكر، للغاية. منذ أربعة أعوام وهو يطلعني على معاناته وقلة حيلته. ذهب إلى مصر، ولم يجد حلاً. ثم حبس نفسه في غرفته في انتظار ما لا يأتي.
يوجد حل، بالطبع، للمعلم نعمان: في دولة متقدمة. يتمدد الشريان الدماغي القاعدي ببطء، وعند نقطة معينة سيكون الوقت قد تأخر. توجد مراكز قليلة متخصصة في علاج هذا النوع من المرض، وقد حصل على عرض علاجي من فرنسا لكنه غير قادر على دفع التكاليف بمفرده. إنه مجرد معلم للإنجليزية، ابن لرجل بسيط من فلاحي الريف، هو مثال للفقراء الذين صعدوا على القصائد حتى صار بمقدور الناس رؤيتهم.
قبل أيام أعلن نعمان اعتزاله الكتابة والناس. لم يسبق لي أن رأيت المعلم نعمان مهزوماً. كان يحدثني عن مرضه بشكيمة عالية، أستمع إليه وأنا أفكر بالقصة التي كتبتها قبل عشرين عاماً "وانقشع الضباب". أطلعني على مراسلاته المهزومة مع المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال، وعلى ردودهم المختصرة المليئة بالاحتقار والتجاهل. قرع الباب العالي والنافذ الواطئة وعاد، دائما، وحيداً إلى مرضه، مشيعاً بقصيدته التي ألقاها علينا في زمن بعيد: عبثاً تتكلم هذه الكلمات.
ليس للمعلم نعمان من يأبه له سوى أصدقاء قليلين، قليلي الحيلة.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
تفكك اليمن إلى مستعمرات ثلاث
العودة إلى تفاهة الشر
معضلات لا تستطيع القبة الحديدية حلّها