لا يمكن أن يضطلع بالتحليل الاجتماعي لتحولات المجتمعات متخندقٌ سياسي، مهما ادّعى منهجية ما يقوم به، وخصوصاً في مجتمعاتٍ ما زالت محكومةً بإرث صراع دامٍ، لم يتوقف منذ قرون، بتجلياتٍ أكثر دمويةً وتخلفاً، وقد تستمر طويلاً في ظل عدم فهم جذر هذه الصراعات ومحاولة تأطيرها، وإيجاد الحلول العملية الناجعة لها.
ليس الصراع اليوم في اليمن سياسياً فقط، وإن كان كذلك في إحدى تجلياته، لكنه أيضاً نتاج تحولاتٍ وتراكماتٍ اجتماعية متعدّدة، منها ما يتعلق بالغبن الاجتماعي، ومنها ما يتعلق بالقهر المناطقي والإقصاء والتهميش، والظلم والاستبداد الذي مورس على أجزاء واسعة من اليمن. وهناك، في وسط هذا كله، من يريد الاستثمار مذهبياً وطائفياً، كمادة تحشيدية لهذا الصراع، كما تقوم به بعض الأطراف، مثل جماعة الحوثي وحلفائها.
على الرغم من هذا كله، يبقى الصراع في جوهره صراع البحث عن دولةٍ انتظرها الناس طويلاً أكثر من خمسين عاماً، وهذا هو الأهم، وهو الذي حفظ الصراع في حدوده الموضوعية، وعدم الانزلاق به إلى اقتتال مذهبي أو مناطقي حتى الآن، لكن الاستمرار في هذا المسار للصراع غير مأمون العواقب، وليس مضموناً عدم انزلاقه إلى أيٍّ من أشكال الصراع الثانوية التي تقاد نحوها المنطقة ككل.
التعويل اليوم كثيراً على استمرار الصراع في دائرته المركزية، صراع البحث عن دولة، وحسم معركته في هذا الإطار حول دائرة البحث عن الدولة، وهو الضامن الوحيد لتأطير طرفي الصراع وتوصيفهما بين شرعيةٍ وانقلاب، وهذا مرهون أيضاً بمدى صحوة النخب والأحزاب في الدفع بالحسم تحت هذه اللافتة وهذا التوصيف، وهو شرعية وانقلاب. ما لم يتم ذلك، فإن النتائج التي ستفضي إليها تطورات الصراع ستكون أكثر سوءاً مما هو كائن الآن، في حال تلاعبت القوى السياسة بهذا التوصيف، أو حتى تدخل الخارج الذي يريد حلحلة الصراع تحت دائرة أطراف متصارعة، سيكون أي حل لهذه القضية تحت هذا التوصيف هو حسم جولةٍ من جولات الحرب والصراع، وليس إنهاء الأسباب الرئيسية للصراع ومعالجتها، من التهميش والإقصاء للأطراف من المركز.
الأخطر اليوم أن المعالجات السطحية للصراع ستؤسس لدورات مقبلة لصراعٍ أكثر دمويةً مما هو كائن الآن، والتاريخ القريب على مدى الخمسين عاماً الماضية خير دليل على مثل هذه المأزق التأسيسي للصراع الدائم، منذ فجر ثورة "26 سبتمبر".
وكانت أوضح محطة للصراع في الشمال هي أحداث أغسطس/ آب 1968 الدامية، والتي كانت بمثابة محاولةٍ حقيقيةٍ لعودة اليمن إلى ما قبل "26 سبتمبر" وبعدها الوطني، أي استمرار التحكّم والسيطرة لرقعة جغرافيا بعينها على الحكم والتفرّد به دون غيرها، وهو ما تكرّر بما سمي أحداث الحجرية بعد ذلك في 1978، وتلك الجولات من الصراع التي حوّلت جمهورية سبتمبر إلى جمهورية خاصة بمنطقة بعينها.
وهو ما تجلى بعد ذلك فيما عرف بالمصالحة الوطنية 1970، والتي لم تكن سوى واحدةٍ من جولات الصراع التي أسست لما بعدها من جولات الحرب الدامية، وابتدأت تحت مسمى حروب الجبهة والمناطق الوسطى، عدا عن حروب الشمال والجنوب في عامي 1972و1979، وصولاً إلى حرب صيف 1994 شمالاً و1986 جنوباً، وكانت كلها جولةً من جولات هذه الحرب التي تفجّرت أيضاً في 2004، وانتهت كلها بثورة2011، كمحاولة اجتماعية للهروب من دورات العنف والصراع الدائمة، بالقضاء على الأسباب الرئيسية لها، وهي غياب الدولة مفهوماً حقيقياً ناظماً لمصالح الناس وحامياً لحقوقهم.
فبالعودة إلى الجذر الحقيقي للصراع شمالاً، والذي تمثل في بروز الفكرة الزيدية وهيمنتها، بشقيها المذهبي الميثولوجي والقبلي السوسيولوجي، على جزء كبير من حقيقة الصراع، وهو النظر إلى اليمن كله وكأنه هبة لجماعة من الناس دون غيرهم، وأن الآخرين مجرّد رعايا فيه وتابعين لها وليسوا شركاء لهم حقوق سوى حقوق السمع والطاعة والسخرة للحاكم، هذه الفكرة التي ظلت تسري، حتى في أوصال معظم النخب الزيدية الحاكمة، حتى بعد ثورة 26 سبتمبر، صحيح أنها لم تعد حاضرة قولاً، لكنها ظلت مهيمنة، ممارسة وسلوكاً حاكماً لهذه النخب التي تنتمي لهذا المجال المذهبي، ولو في اللاشعور.
جنوباً، عقدة الصراع الرئيسية هي أيضاً البعد الاستحواذي لجغرافيةٍ ما على كل مفاصل الدولة ومؤسساتها، هذا البعد الذي ظل حاضراً في كل مراحل الصراع جنوباً، والذي قاد البلاد إلى دورة صراع 13 يناير الدموية، وهو صراع ناتجٌ أيضاً عن غياب مفهوم الدولة، بوصفها راعياً حقيقياً لمصالح كل الأطراف، وحامية لها، وأن الدولة، في معناها الواقعي والنظري أيضاً، لا يمكن لها أن تكون أداةً لمصالح طرف من أبناء الشعب على حساب الأطراف الأخرى، وهذا البعد الذي حوّل الدولة أداةً في يد الأطراف المتصارعة، وما زالت آثاره.
الفارق الجوهري بين بعدي الصراع في الشمال والجنوب أن الصراع في الشمال مدفوعٌ بنظرية دينيةٍ مذهبيةٍ شوفينيةٍ، على عكس الصراع في الجنوب، والذي تتحكّم به حالة تنافس مناطقي على الاستئثار بالسلطة ومستندة إلى القوى القتالية القبلية، لا على مفهوم الحق الإلهي في الحكم والثروة، كما هو كائن في الشمال.
الأهم اليوم، وفي هذه الجولة الصراعية الأعنف، والتي تفجرت في وجه ثورة 11 فبراير، ومحاولتها الخروج باليمن من هذا المأزق الدائم، أن الناس وصلت إلى قناعةٍ حقيقية بأن وجود دولة حقيقية، ومن بوابة الدولة الاتحادية التي ستؤسس حالةً من الشراكة الوطنية بالمفهوم العملي، وهي نظام الأقاليم، ولن تترك الأمر لمجرد الشراكة عنواناً مرفوعاً فحسب، لكن تأطير هذا المفهوم وفقاً لمصفوفةٍ قانونيةٍ ممثلةٍ بدولة اتحادية، يحدّد دستورها مضامين للشراكة الوطنية ومحدّداً الاختصاصات ومجالات السيادة الوطنية، تاركاً للناس أن تدير نفسها بنفسها داخل أقاليمها، ما سيتيح لكل الأطراف تحمل مسؤولياتها أمام مواطنيها، ولن يظل هناك غبنٌ في ما يتعلق بالقرار داخل هذه الأقاليم.
إنه، وعلى الرغم من كل العوامل المتوافرة لتحويل الصراع عن مساره الوطني، والمتمثل بانقلاب مليشيوي "طائفي"، في أحد أبعاده، على حالةٍ من الإجماع الوطني غير المسبوق، في ما يتعلق بالذهاب نحو دول اتحادية، عدا عن الحضور الإقليمي الكثيف للدفاع نحو هذا المنظور من الصراع، وهو صراع طائفي، تحت لافتة السنة والشيعة، إلا أن المسار الحقيقي للصراع أننا ما زلنا، نحن اليمنيين، ممسكين ببوصلة السير نحو صراع واضح المعالم بين شرعيةٍ بكل مساوئ ضعفها، وانقلابٍ يحاول أن يعيد عجلة التاريخ إلى الوراء، في محاولةٍ انتحاريةٍ للعودة بالناس إلى ما قبل خيارات الإرادة الشعبية والجماهيرية التي لن تقبل بأي شكلٍ أن يُعاد حكمها بطريقةٍ كهنوتيةٍ استبداديةٍ متخلفة، غارقةٍ في أوهام الخرافات الماضوية.
دولة الشراكة الوطنية، المتمثلة بيمن اتحادٍّ بكل مساوئه، هي الضامن الوحيد لعدم استمرار دوامة الصراع، شريطة إيمان كل الأطراف إيماناً حقيقياً بهذه الخطوة، وأنها ليست مجرّد خطوة تكتيكيةٍ التفافية، على مسار الصراع السياسي الراهن، وإلا فإن عجلة الصراع ستظل قابلةً للدوران مرة أخرى، وتفجير محطات عنف جديدة، وتحت عناوين ومضامين وشعارات جديدة أيضاً.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
غير المنظور في الأزمة اليمنيّة
التنوير المجني عليه عربياً
إيران وإسرائيل وشفرة العلاقة