منذ أكثر من شهر والتظاهرات والاحتجاجات في إيران مُستمرة، والتي انطلقت شرارتها بعد مقتل الفتاة الكردية (مَهْسَا أميني) على أيدي قوات الشرطة الإيرانية، بحجة أن حجابها لم يكن كافياً.
لكن هذه الاحتجاجات التي عمت مختلف المحافظات والمدن الإيرانية بما فيها مدينة (الملالي) المقدسة (قم)، ولا تزال مستمرة. لم يكن مقتل "الفتاة" هو السبب الوحيدة لها، ولو أنه جاء بمثابة الشرارة الأُولى لانطلاقها.
الأسباب والدوافع
هناك أسباب ودوافع قوية وراء هذه الاحتجاجات، وفي مقدمتها الوضع المعيشي الصعب الذي بات يمر به الشعب الإيراني اليوم بجانب ارتفاع البطالة والفساد، وتدني قيمة (العُملة) الإيرانية التي تنعكس سِلباً على مُجمل الحياة العامة، وحجم الفجوة بين حياة (الحكام) والشعب من خلال تمتعهم بحياة مميزة واستثنائية على حساب العامة، وصولاً إلى استمرار قيام حكم (الملالي) بمراقبة حياة وأعمال الشعب الإيراني الخاصة والعامة بصورة مستترة ومُعلنَة وما يمثل ذلك من تضييق وتشدد.
كل هذه الأسباب والدوافع مجتمعة وغيرها هي وراء تلك الاحتجاجات الحالية بالدرجة الأُولى مع أن ما بات يُعانيه الشعب الإيراني من مِحن؛ يرجع سببه بالدرجة الأُولى إلى ما يقوم به النظام الإيراني من تدخلات سافرة بعِدة دول عربية وإسلامية وإفريقية خاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وما يُصَاحِب ذلك التدخل من صرف مادي وعسكري وأمني، بجانب الصرف على عشرات القنوات الفضائية وعلى الجمعيات والهيئات التي قام تأسيسها في غير مكان من العالم..
إضافة إلى شراء الذمم وبعض الصحفيين والكتاب والمرتزقة في عدة دول خاصة العربية، وذلك كله باسم نشر "التشييع" ونشر أفكار "ولاية الفقيه" والبحث عن الهيمنة والدعاية للنظام، وهذا كله يأتي على حساب توفير الضروريات والتحسينات للغالبية من أبناء الشعب الإيراني الذي يعرف ذلك كله.
تصاعد الاحتجاجات.. وحتمية الثورة
ولكن.. رغم ذلك ورغم ما يعانيه الشعب الإيراني من ويلات ومحن والتي تفوق ما كان يعانيه قبل ثويرة (الخميني) بل لا مقارنة بينهما، ورغم حجم الاحتجاجات والتظاهرات الحالية التي تزداد يوماً بعد يوم ومدى التجاوب من مختلف شعوب العالم معها! إلا أن ذلك كله يصعب أن يُؤَدي إلى نهاية النظام القائم.. حيث لا تزال نِهايتُه بعيدة كما أرى؟!
حتى ولو أن احتجاجات اليوم قد تُشْبِه ببعض الجوانب احتجاجات 1979م التي انهت نظام "الشاة" إلا أن الفارق بينهما لا يزال كبيراً، فمن ضمن أوجه التبايُن بينهما؛ هو أن احتجاجات عام 1979م كانت كبيرة الحجم ليس فقط بالعاصمة (طهران) وإنما بغيرها من المحافظات والمدن الإيرانية الأُخرى أيضاً، وكان معظم المُحتَجين هم من "الشيعة" الذين يمثلون الغالبية من الشعب الإيراني، بما فيهم بعضاً من علماء وطلاب: (الحوزات الدينية) وبعضاً من كبار رجال الدولة من مَدنيين وعسكريين وأمنيين وطلاب المدارس والجامعات ورجال الأعمال وغيرهم.
كما كان العُنف - وإن مُورس في بداية الاحتجاجات بقوة، خاصة حينما وَصل المُحتَجون إلى درجة الوقوف وَجها لوجه أمام قوات الجيش والأمن- إلا أنه سرعان ما هدأ وصولاً إلى عدم ممارسته نهائياً، لأن بعض أفراد الأمن ثم الجيش اقتنعوا بحتمية "الثورة" مما أدى إلى تسلل البعض قادة وأفرادا إليها.. وصولاً إلى التوقف الكامل على استخدام "العنف" والاِنضمام إلى المُحتَجين، ليكون ذلك إيذاناً بانتهاء نظام "الشاة" وعامل مُساعد من أهم العوامل التي أدت إلى نجاح "الثورة".
بينما احتجاجات اليوم ليست بنفس حجم احتجاجات الأمس، وربما إن استمرت قد يزداد العدد كما وكيفاً؟. وهي خليط من "الشيعة" ومن غيرهم، مما قد يُظهِر بعض التبايُن بين المُحتَجين في التوجهات والأهداف عكس احتجاجات عام 1979م المُوحدة. حتى ولو كرر المُحتَجون اليوم في الوقوف أمام قوات الأمن والشرطة ببعض المحافظات والمدن الإيرانية وجهاً لوجه.
إلا أن العُنف الذي يقابلونه اليوم أشد من عنف الأمس، لأن معظم أفراد الأمن والشرطة يحملون عقيدة تربوية فكرية بجانب العسكرية، خاصة ما يُسمى بـ: (الحرس الثوري الإيراني) الذي يخضع أفراده لدورات تثقيفيه تؤهلهم للاِلتزام بخط النظام والولاء المُطلق للمرشد ولما يُسمى بـ: (ولاية الفقيه) فكله قادة وأفراداً مُنَاطٌ به الحفاظ على النظام القائم والذي قد يُؤول إليه الأمر في قمع الاحتجاجات الحالية إن استمرت وزادت وربما يقوم حالياً بالقمع واستخدام "العنف" ولو بلباس غير لباسهم، بدليل أن استخدام العنف ضد المُحتَجين اليوم أكثر بكثير من عنف عام 1979م كون نظام (الملالي) وهو الأكثر عُنفاً بوجه عام يستحيل عليه الخضوع للمُحتَجين والمُتظاهِرين.
وهناك سبب آخر مهم جداً، وهو أن الولايات المتحدة الأمريكية ومعها بعض الدول الغربية ليس في صالحها ذهاب النظام الإيراني القائم اليوم الذي حقق لها تواجداً وهيمنة في المنطقة وَغير ذلك من المكاسب التي لم يحققها لهم نظام "الشاة" الذي جعلوا منه بمثابة "شرطي الخليج" ظاهرياً، بينما كان يُعد "كالبُعبع" لها.. تماماً كحال النظام اليوم؟!! وبعد انتهاء المهمة جَاءت ثويرة "الخميني" التي لولا الوقوف الغربي المباشر وَغير المباشر معها، لما نجحت بالصورة والكيفية التي نجحت بها.
وهذا لا ينفي خروج بعض المسيرات والمظاهرات ببعض الشوارع الغربية والتي قد تمثل المنظمات الحقوقية والإنسانية والشعبية تأييداً لاِحتجاجات ومظاهرات اليوم.
ولكن.. رغم ذلك ورغم نقل بعض الصور الحية لهذه الاِحتجاجات والمظاهرات اليوم، وما بات يُذاع وينشر ويتداول عبر "النت" و "السوشيل ميديا" وَغيرها تعاطفاً وتأييداً لها، وهي التكنولوجيا التي لم تكن متوفرة عام 1979م بالصورة والكمية والكيفية التي تتوافر اليوم، وأيضاً لبعض أهم التبايُن بين الأمس واليوم ولبعض الأسباب التي أشرتُ إليها آنفاً؟!
صعوبة ذهاب النظام الإيراني من خلال هذه الاِحتجاجات والمظاهرات الحالية، لكنها حتماً ستؤدي إلى تآكله يوماً بعد يوم، وربما قد تُمثل بداية النهاية له ولو بصورة تدريجية.. خاصة مع استمرار النظام في الظهور بالعجز عن فهم واقع إيران وشعبها اليوم، ومعظم أبناء الشعب الإيراني ولدوا بعد ثويرة (الخميني) فاكتووا بنارها وعرفوا حقيقتها التي هي عكس الظاهِر المُعلن من نظامها.
هل يغير النظام الإيراني نهجه وتوجهاته؟
رغم كرهي للنظام الإيراني بعرضه وجوهره شأني بذلك شأن الملايين من العرب والمسلمين الذين ذاقوا الخوف والجوع والتشرد بسبب تدخله السافر في أوطانهم ولا يزالون، إلا أنني مع ذلك لا بد أن أنبه هذا النظام ببعض ما رأيتُ إيجازه هنا حِقناً لدماء الشعب الإيراني على الأقل، فإذا أراد النظام الإيراني هذا تجاوز احتجاجات وتظاهرات اليوم، عليه أولاً الاعتراف الجلي بأنه يمر بِمحنة يصعب بل يستحيل عليه إنكارها.
وعلى ضوء ذلك عليه أن يقوم بتغيير توجهاته السياسية والفكرية والعامة، والتأسي بما قامت به القيادة الصينية من تغييرات وتوجهات بصورة تدريجية مع الإبقاء على (الحزب الشيوعي) الذي ظل ولا يزال قائماً، فلقد اتجهت القيادة الصينية نحو التعامل العقلاني محلياً وخارجياً خاصة في الجوانب الاقتصادية والاستثمارية، وبناء سياسة خارجية متزنة وبما يتوافق مع التطورات الدولية المُتْسَارِعة.
كما قامت بتغيير بعض الممارسات الشيوعية داخلياً، والاِنفتاح الخارجي بصورة تدريجية وبما يتوافق مع الشعب الصيني وَيُراعي مصالحه بالدرجة الأُولى، واتجهت نحو بناء الدولة بإدارة حديثة كما اهتمت في توفير الضروريات والقضاء على الفقر والأُميَّة، وإعطاء بعض الحريات العامة دون إفراط ولا تفريط، إضافة إلى بعض الحريات الفردية لرجال الأعمال والمُصَاحِب للاِنفتاح الاقتصادي بوجه عام، وظل الحكم ولا يزال جَمَاعي.. وهنا مربط الفرس كما يُقال!!
ظلت الصين الجديدة ولا تزال مُنفَتِحة بعلاقاتها الخارجية بكل عقلانية وحيادية، ودون أن تتدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة. حتى الجانب الاقتصادي تقوم بتسويق منتُوجَاتها بكل حذر، وهو الأمر الذي أتاح لها التواجد من خلال صناعاتها وسلعها المختلفة بمعظم دول العالم خاصة بما يُسمى بـ دول العالَم الثالث لتصل الصين الحديثة إلى ما وصلت إليه اليوم من قوة وهيمنة اِقتصادية غير مسبوقة.
كل هذا والحزب الشيوعي لا يزال قائماً. وهذا لا يعني بقاء الحزب مجرد ديكور فلا يزال هو الحاكم ظاهرياً. ويعقد مؤتمره مرة كل خمس سنوات كما هو حاصل هذه الأيام. حيث يقوم قرابة 3 ألف مندوب لاختيار اللجنة المركزية التي هي بمثابة (البرلمان) لاختيار (200) عضو جديد والذين يصوتون لاختيار مكتب سياسي مؤلف من 25 عضواً هم بمثابة (هيئة القرار) وهم الذين يحكمون الصين ويختارون رئيساً منهم، والذي ربما بهذه الدورة التي بدأت يوم الأحد 16 أكتوبر ولمدة أسبوع قد يفوز (شي جينغ) للمرة الثالثة لأنه مع رفاقه جعلوا من الصين بفترة وجيزة ثاني أقوى اقتصاد في العالم.
ومع ذلك فإن الحزب لم يعُد يُؤله الفرد كما كان الأمر أيام (ماو) أو يراقب كل صغيرة وكبيرة للشعب ولا يحرص على انتشار أيديولوجيته خارج حدوده كما كان قبلاً؟ وهذا هو ما أقصده هنا.
فهل سيحذو نظام إيران حذو الصين على الأقل والقيام بتغيير جذري في مجمل توجهاته السياسية والفكرية، وتقديم تنازلات عِدة إن أراد البقاء، ومنها" الشروع بإصلاحات داخلية وإعطاء الشعب الإيراني حرية العمل والرأي والتفكير وبما ينص عليه (الإسلام) الذي يَدعي ملالي (قم) التمسك به ظاهرياً على الأقل؟!
ثم وهو الأهم عدم التدخل في شؤون الدول الأُخرى ووقف رغبات (الملالي) بنشر (التشيُع) وأفكار (ولاية الفقيه) وما يصاحب ذلك من صرف مليارات الدولارات، بما في ذلك التدخل المباشر بالسلاح والأفراد والمُستشارين العسكريين والأمنيين ببعض الدول العربية والإسلامية وبالذات في العراق وسوريا ولبنان واليمن التي عم بها الخراب والدمار بسبب تدخلها مستغلة وجود أقلية شيعية بها. فلا بد من وقف هذا التدخل وصرف المليارات التي تصرف بسببه لشعبها وإحياء الطبقة الوسطى التي انتهت بعد قيام ثويرة (الخميني).
كذلك لابد أن يقوم النظام (الإيراني) بوقف المتاجرة بالقضية الفلسطينية، لأن الشعب الإيراني وَغيره عرباً وعجماً يعرفون أكاذيب (الملالي) بهذا الادعاء فمنذ قيام ثويرة (الخميني) لم تطلق رصاصة إيرانية واحدة ضد إسرائيل، بل إن العداء لإسرائيل تكشفه حقائق عديدة منها، قيام إسرائيل بعدة هجمات ضد القواعد العسكرية الإيرانية بسوريا واغتيال بعض قادتها داخل وخارج إيران إضافة إلى اغتيال بعض علمائها: (النوويين) داخل إيران نفسها، ولا تزال تقوم بذلك بين آن وآخر.. ومع ذلك لم يحدث أن ردت إيران على أي اِعتداء تقوم به إسرائيل ضدها.
حتى حزب الله وقائده (حسن نصر الله) بات هو الحامي لحدود إسرائيل من التسلل الفلسطيني، ووافق مؤخرا على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، مما يعني اعترافه بإسرائيل علناً!! فكفى كذبا وتضليلا، ومرة أخرى هل سيقوم النظام الإيراني بالتغيير؟!
صحيح إن أيه إصلاحات داخلية حقيقية داخل إيران قد تنهي نظام (الملالي) وصحيح أيضا أن أحد أهم الذي يقود إيران منذ عام 1989م ولا يزال، والذي يعتبر نفسه أحد ثوار 1979م أعني (آية الله علي خامنئي) لا يزال حريصا على استمرار معاداة أمريكا ظاهرياً؛ كونه يحتاج لعدو يخدم بقاؤه!! كما أن استمرار المقاطعة والعقوبات رغم ما باتت إيران تعانيه من فساد وتضخم وسوء إدارة..
إلا أن المقاطعة والعقوبات تخدم خامنئي وشلته وليس العكس؛ كون الخطر الكبير لخامنئي ومستشاريه ليس العزلة الدولية وإنما هو الاندماج مع العالم، وهو ما يدفع بخامنئي الاستمرار بالتدخل في شؤون بعض الدول، والطموح في التوسع الإقليمي مع استمرار التمسك بالعقيدة الثورية والرغبة بتغيير العالم وليس فقط دول المنطقة؟! ولأن أولوية خامنئي ليس مصالح الشعب الإيراني وإنما هو الحفاظ على النظام القائم ووحدته..
كل ذلك وغيره صحيح وهو ما يعرفه الشعب الإيراني وَغيره من الدول والشعوب الأُخرى، ولكن مع ذلك كله ورغم أن نظام (خامنئي) بات مريضاً ويتآكل يوماً بعد يوم، فبدلاً من التصلب وَعدم الاعتراف بأنه بمِحنه فعلاً، والتهرب من معالجة الأسباب الحقيقية من وراء الاحتجاجات والتظاهرات الحالية، بل وتجاهلها خاصة في الجوانب الإعلامية (الرسمية).
رغم استمرارها وإلى درجة تلبية دعوات الناشطين والناشطات للتظاهر رغم تعطيل شبكة (الإنترنت) وحجب التطبيقات بمعظم المحافظات والمدن الإيرانية حتى وصل القتلى إلى أكثر من مائتين قتيل ومئات بل آلاف الجرحى، أو ظهور (الملالي) بدور (الضحية) من خلال اتهامهم وبكل إصرار للخارج بأنه وراء تلك الاحتجاجات رغم معرفة (الملالي) قبل غيرهم أن مشكلة إيران هي في داخلها وليس من خارجها؟! أو التهرب منها في استمرار التدخلات الخارجية السافرة سواء من خلال القيام بضرب إقليم: (كردستان) العراقية أو باستمرار تغذية الفتن ببعض الدول والشعوب وبالأخص بالعراق وسوريا ولبنان واليمن.
وهي الدول التي تعاني (الأمرَّين) من هذا النظام الذي لا يدخل بلداً أو يتدخل بشؤونه إلا وَيَعُم فيه الخراب والدمار والجوع والخوف والتشرد والضياع، وما يحدث ولا يزال بهذه الدول الأربع بالذات خير شاهد!.
خاتمة:
لا بد من اِعتراف نظام (الملالي) بالمحن التي يمرون بها اليوم، والشروع بمعالجة أسبابها وتغيير سياسته الخارجية ولو بصورة تدريجية، والتأسي بالقيادة الصينية الحالية على الأقل، بحيث يظل آيات (قم) مجرد مرشدين ومراجع دينية لشيعتهم فقط، وتسليم الحكم للشعب الإيراني وهو مَن سيختار مَن يحكمه دون تدخل ولا تزكية من (المُرشد) ولا قيادة روحية أو ما شابهها..
إضافة إلى أهمية الثقة بأن الإصلاحات الداخلية والتواصل مع العالم الخارجي، قد لا يكون بالضرورة خطيراً على "خامنئي" إذا التزم الحياد والبُعد عن الحكم والاكتفاء بالجانب الديني؟!
مالم يقم النظام الإيراني بذلك، فإن الاِحتجاجات والتظاهرات سَتستمر حتى ولو هدأت، فإنها لابد أن تعود طالما والوضع الداخلي والخارجي لم يتغير، وقد تعود بصورة أقوى وأشمل. وفي كل الأحوال، فإن أُفول النظام الإيراني القائم قد قرب، ولابد أن ينتهي إن عاجلاً أو آجلاً كونه بُني على باطل، وما بُني على باطل فهو باطل وسيظل كذلك حتى يزول..