تعاني اليمنيات العاملات في حمّامات البخار الشعبية المخصّصة للنساء (تُسمى العاملة "الحَمامية" نسبة إلى الحَمّام) من النظرة الدونية من المجتمع عموما ونظيراتهن من النساء خصوصا بسبب ممارستهن هذه المهنة، وهو عنف مجتمعي قاس، وعنصرية تمايز بين المجتمع بطريقة غير أخلاقية ولا إنسانية، ضمن ممارسات تميي دونية ضد مهن أخرى يصنف من يعمل فيها أنهم أقل إجتماعياً.
"سحر" امرأة في العقد الثالث من عمرها، تعمل في أحد الحمامات الشهيرة بالعاصمة صنعاء، وهي تعاني من النظرة الدونية في أوساط مجتمعها، وقد خسرت طفولتها وأحلامها بسبب التعاملات المجتمعية التي فرضها المجتمع على حياتها اليومية. تقول سحر: "كانت أمي تردّد عليّ دائما في طفولتي أنني سأكون دكتورة، بسبب حبّي للتعليم وتفوقي بالدراسة عندما كنت في الصفوف الأساسية، لكن كلّ تلك الأحلام ضاعت بسبب ما تعرضت لها من تنمّر وهَمز ولَمز من المجتمع، كل ذلك جعلني أفشل وأعود لمهنة أسرتي".
تعمل العاملات في حمامات البخار الشعبية (الحماميات) على تلييف وتنظيف النساء بالإضافة إلى المساج وخدمات أخرى مقابل مبلغ مالي زهيد نسبيا، للنساء اللاتي يذهبن إلى تلك الحمامات، وهي حمامات قديمة تنتشر في عدد من أحياء صنعاء، يرتادها الرجال والنساء بشكل منفصل كلياً.
نظرة دونية
تكافح العاملات في الحمامات من أجل رزقهن وكسب أموال للعيش، وذلك شأن كل المهن، لكن النظرة الدونية تحول بين قدرتهن على الاندماج في المجتمع بشكل طبيعي مثل بقية الناس، ويؤثر ذلك على مواصلة تعليمهن والحصول درجة تعليمية كبرى، وتبرز العنصرية سببا رئيسيا في ذلك.
تتحدث سحر: "أبي كان يعمل في حمّام الرجال، وأمي وأخواتي في حمّام النساء، لكن أبي كان يمنعني من الذهاب للحمام لمساعدتهن؛ لكي أهتم بدروسي وأصبح دكتورة. كانت درجاتي عالية، وكنت أنال المراتب الأولى، لكني توقفت عن الدراسة كلياً عندما وصلتُ للصف العاشر".
وأضافت في حديث لـ"يمن شباب نت": "كل ذلك بسبب أني كنت منبوذة وأتعرّض للتنمر، وكانت زميلاتي يتجنبن الجلوس معي، وينادينني بالحمامية بدلا من اسمي، وكنت أتعرض للسخرية أحياناً، حتى إن المدرسات عندما يعرفن مهنة عائلتي لا يعيرنني أي اهتمام مثل الطالبات المتفوّقات الأخريات، وكان بداخلي غصة، وعزّز ذلك شعوري بالنقص، مما جعلني أترك التعليم".
وتشمل تلك النظرة الدونية الرجال العاملين في المهنة نفسها أيضا، لكن النساء معانتهن أكبر وتؤثر على علاقتهن الاجتماعية، وقد توسّعت حالات العنصرية مع استمرار الحرب في البلاد، في ظلّ غياب التوعية وغياب مؤسسات الدولة الرادعة للانتهاكات العنصرية التي تُرسّخ في المجتمع.
وتُكمل سحر قصتها بالقول: "عندما تركتُ التعليم، لجأت إلى عمل عائلتي الأساسي في الحمامات، وهي مهنتي التي لن أستطيع أن أتجاهلها أو أنساها؛ لأن المجتمع، وخصوصا النساء، سيذكرونني بها وكأنها عار أبديّ علينا لا يجوز لنا الخروج منها، فبدأت بالعمل منذ سن المراهقة إلى الآن".
ترسيخ العنصرية
ولا تقتصر العنصرية ضد النساء العاملات في الحمّامات العامة على ما يلقينه في التعامل اليومي، بل تُرسّخ العنصرية من خلال استخدام المهنة كـ"شتيمة" في أوساط المجتمع وخاصة في أوساط النساء، وهو ما يعزز حالة التهميش والنبذ للعاملات في الحمامات.
تتحدّث سحر عن معاناتها الاجتماعية: "عندما أذهب إلى الأعراس، تأتي نساء لا يعرفني ليطلبن خطوبتي لأبنائهن، فأحاول أن أتهرّب ولا أعطيهن عنواني؛ لأني أعرف مسبقاً أن نظرتهن للشكل الخارجي الذي جذبهن ليست كل شيء، فحينما يعرفن مهنة أسرتنا سينتهي كل شيء، وقد حدث ذلك عدة مرات"، وأضافت: "العنف النسوي الذي نتعرّض له أكثر من الذكوري؛ لأن النساء في مجتمعنا مشاعرهن مفضوحة ولا يحاولن إخفاءها، وهذه معاناة معقّدة ومركبة، وتواجهنا بشكل يومي ولا نستطيع مغادرتها".
لا يقتصر ما تعانيه النساء العاملات في الحمام على النظرة الدونية والممارسات العنصرية فقط، ففي بعض الأحيان يصل الأمر ببعض الناس لإطلاق تُهم غير أخلاقية بحق تلك العاملات من النساء بصورة عامة، مما يجعلهن عرضة لممارسات غير إنسانية، من قبيل عدم اكتراث المجتمع للدفاع عن تلك العاملات في حال تعرضهن للتحرش أو الاعتداء.
في مقابل ما سبق، يعتقد بعض اليمنيين أن تلك المهنة عادية وأن النظرة الدونية ليست إلا ثقافة صُنعت في المجتمع بعيدا عن القيم الدينية والأخلاقية السوية. تقول منى الخولاني وهي طالبة جامعية: "للأسف، هناك نظرة مجتمعية غير عادلة بحق العاملات في الحمامات العامة، وهُن يمارسن مهنة عادية، وهذا اختيار طبيعي، ولا عيب فيه؛ لأن العمل والمهنة يظل الوسيلة الحضارية للعيش الكريم، ولا يقلّل من أي شخص مهما كان".
الحرب وإثارة النعرات
ليست النظرة الدونية للعاملات في الحمامات العامة للنساء، طارئة على المجتمع اليمني حالياً، بل هي ثقافة متوارثة من أجيال سابقة، لكن استقرار الحياة العامة في البلاد وازدهار التعليم، ولو بشكل جزئي قبل الحرب، صنع مجتمعا أكثر انفتاحاً في التخلص من تلك المورثات غير الإنسانية في العنصرية والطبقية، وأحدثت تحوّلا في جيل جديد متعلّم.
واعتبرت الخولاني في حديث لـ"يمن شباب نت"، أن تلك النظرة ليس لها علاقة بهذا الجيل من الناس (أي لم يكونوا سبباً في خلقها)، بل هي متوارثة مجتمعياً، وهي خاطئة بالفعل، وتؤكد على ذلك التعاليم الدينية التي يؤمنون بها، لكنهم لا يتقبلون إنهاءها بفعل السلوك العام للمجتمع.
من جانبها، ترى الناشطة المجتمعية نسيم خالد أن الحرب خلال السنوات الماضية خلقت نوعا من الثقافة العنصرية والطبقية الجديدة، وقد كان المجتمع تخفف منها نوعاً ما في العقود الماضية، ولم تعد تقتصر على المهن فقط، أو على نوع اجتماعي معين، بل تعدت إلى تصنيف على أساس مناطقي وقبلي، وهذه إفرازات سيئة للحرب.
وأضافت في حديث لـ"يمن شباب نت": "بالفعل النساء هنّ الأكثر تعرضاً للنظرة الدونية والعنصرية بشكل عام؛ لأنهن الفريسة السهلة في المجتمع، وقد يحدث ذلك حتى من نظيراتهن من دون اكتراث، وهذه مشكلة حقيقة تحتاج إلى مزيد من التوعية والعودة للقيم الإنسانية والأخلاقية السامية".
ورغم ان التهميش والنظرة الدونية متواجدة في المجتمع حتى ما قبل الحرب، لكن السنوات الماضية من الصراع في البلاد فاقم العنصرية نتيجة خطاب الكراهية الذي يرسخ من قبل سلطات الأمر الواقع التي لا تؤمن بالمساواة المجتمعية عموماً، حيث تصنف الناس بناء على ارتباطهم بسلالة زعيم الجماعة، بناء على ثقافة طائفية للاستيلاء على السلطة.
*تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية.