كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرًا، في غرة شهر رمضان الجاري، وقبل أن تغرب شمس ذلك اليوم، كان أبناء مديرية حبيش (شمال غرب محافظة إب، الواقعة وسط اليمن)، على موعد مع فاجعة جديدة أخرى هزت أركان المحافظة..
فقد أقدم شاب- في عقده الثالث- على قتل طفلته البالغة من العمر سبعة أعوام، بعد تعريضها للضرب والتعذيب إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة وفارقت الحياة..!!
لم تكن هذه الجريمة الأولى التي يتم تسجيلها، من هذا النوع، في محافظة إب، الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، والتي يقال إنها نجت من كارثة الحرب؛ لكنها لم تنجُّ من تداعياتها وتأثيراتها. فقد شهدت المحافظة عدة جرائم مماثلة في مختلف مديرياتها.
فالحرب التي تشهدها البلاد منذ أكثر من سبع سنوات، لم تكتفِ بتدمير البنية التحتية فحسب؛ بل تسببت في تفكيك النسيج الاجتماعي، كما طالت أيضا انهيار العلاقات الأسرية، من خلال ارتفاع معدل الجريمة بشكل غير معهود، بما في ذلك- وهو الأسوأ- استشراء جرائم العنف الأسري بشكل ملفت، ومحزن..
مؤشرات تفشي جرائم العنف الأسري
أواخر شهر آذار/ مارس الماضي، استيقظ أبناء مديرية يريم شمال إب، على جريمة مقتل امرأة خنقًا على يد زوجها الذي يعمل بائعًا للقات. وذلك بعد أيام فقط من إقدام مواطن على قتل طفلته (6 سنوات)، ضربًا بسلك كهربائي، في مديرية السدة، المحاذية لمديرية يريم؛ بالتزامن مع إقدام شاب في عقده الثالث من العمر على قتل خالته "70 عامًا" في ذات المديرية (يريم)".
وفي أواخر شباط/ فبراير الماضي، كان شاب في عقده الثالث من العمر قد قُتل تعذيبًا، على يد أقارب زوجته، في مديرية ريف إب، بعد فشلهم على إرغامه بيع حصته من منزله، الذي كان قد كتب نصفه باسم زوجته التي تعاني من العُقْم.
وجاءت هذه الجريمة بعد أيام من مقتل مواطن على يد شقيقه في مديرية يريم، طعنا بـ "جنبية" في الرقبة أدت إلى مقتله فورًا، بسبب خلاف على "هاتف جوال". وهي الجريمة التي جاءت هي الأخرى بعد أسبوع من إقدام مواطن في الستينات من عمره، على قتل صهره ونجله بسبب خلاف على ماسورة ماء في "يريم" أيضًا.
ما سبق مجرد إشارات للجرائم الأسرية المسجلة خلال الشهرين الماضيين في محافظة إب، وتحديدا في مديرية "يريم" التي كان لها النصيب الأكبر من تلك الجرائم. حيث تؤكد الاحصائيات المسجّلة، والتي رصدها وجمعها "يمن شباب نت"، ارتفاع معدل جرائم العنف الأسري، بشكل غير مسبوق، بالمحافظة، ومنها يمكن القياس كنموذج حي لما أصاب المجتمع اليمني الذي عرف بالتكاتف والترابط الأسري والمجتمعي.
وفي الجدول المرفق أدناه، الذي جمعه "يمن شباب نت" من عدة مصادر- أغلبها من الأرشيف الإلكتروني لما نشر خلال السنوات الخمس الأخيرة- نوضح حجم استشراء وتفشي هذه الجرائم في محافظة إب خلال الأربع السنوات ونيف الأخيرة؛ وتحديدا من 2018 إلى شهر مارس 2022.
حديث الأرقام
في الإحصائية السابقة، التي رصدها "يمن شباب نت" لعدد من الجرائم المسجلة في محافظة إب، خلال الفترة المشمولة، بلغ إجمالي جرائم العنف الأسري بالمحافظة 37 جريمة، وصل فيها عدد الضحايا إلى 56 ضحية، بينهم 49 قتيلا، و 7 حالات إصابة.
ومن الجدول السابق، توزعت تلك الجرائم، حسب السنة، على النحو التالي (مرتبة من السنة الأعلى إلى الأدنى في عدد الجرائم):
حصد العام 2021 النسبة الأعلى، بعدد 16 جريمة عنف أسري، يليه العام 2022 بعدد 8 جرائم (رغم أنه لم يمر منه سوى ثلاثة أشهر فقط: من يناير وحتى مارس)، ثم يأتي في المرتبة الثالثة العام 2020 بعدد 6 جرائم، يليه العام 2019 بعدد 4 جرائم، ثم 2018 بعدد 3 حالات.
ومن المهم الإشارة إلى أن هذه الاحصائيات لا تشمل كل الجرائم؛ حيث اقتصرت الإحصائية على الجرائم التي استطاع الموقع رصدها والتأكد من صحتها من مصادر أرشيفية مختلفة. فضلا عن أنه من الصعب رصد كافة جرائم العنف الأسري التي تحدث في المحافظة الأكثر في عدد السكان على مستوى الجمهورية، خصوصا وأن هناك جرائم مشابهة تحدث لا يتم نشرها عبر الإعلام.
"يريم" في الصدارة
من الجدول الإحصائي المرفق، فقد توزعت هذه الجرائم الـ 37، على (16) مديرية من مديريات المحافظة البالغة (20) مديرية؛ تصدّرتها مديرية "يريم" بواقع (6) جرائم، تلتها مديرية "حبيش" بواقع (5) جرائم، ثم "ريف إب" بواقع (4) جرائم، بينما سجلت كل من مديريات: العدين، فرع العدين، الظهار، وبعدان، ثلاث جرائم لكل منها، تليها مديرية "حزم العدين" بواقع جريمتين، ثم أخيرا مديريات: السبرة، السياني، المشنة، المخادر، جبلة، والشعر، بواقع جريمة أسرية واحدة في كل منها.
أنظر الأنفوجرافك المرفق أدناه، والذي يوضح عدد الجرائم وفقا لكل عام، بالإضافة إلى حصة كل مديرية منها..
تأثيرات الحرب
من خلال الاحصائية الموضحة في الجدول والمخططات البيانية أعلاه، يظهر أن هناك ارتفاعا سنويا في عدد الجرائم الأسرية في محافظة إب..
حيث تكشف الإحصائية عن وجود ارتفاعا ملحوظا لأعداد الجرائم الأسرية المسجّلة في المحافظة بشكل سنوي. بدء بثلاث جرائم خلال العام الأول من الرصد (2018)، لترتفع إلى 16 جريمة خلال العام (2021)- أي بمعدل 1.3 جريمة شهريا خلال 2012. بينما، وبالمقارنة مع عدد الجرائم خلال العام الجاري (2022)، سنجد أن هناك زيادة كبيرة ملحوظ في أعدادها؛ حيث سُجّلت 8 جرائم خلال الأشهر الثلاثة الأولى التي مرت منه فقط- أي أن معدل ارتكاب الجرائم الأسرية أرتفع ليصل إلى 2.6 جريمة في الشهر الواحد. وإذا مضت الأمور وفقا لهذا المعدل، فاحتمالية أن يصل العدد إلى 32 جريمة مع نهاية العام الجاري، أي الضعف مقارنة بـ (16) جريمة سجلت خلال 2021.
وهذا يكشف بجلاء دور الحرب وآثارها في زيادة التفكك الأسري؛ نتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعانيها الأسر اليمنية، فالحرب لم تكتف بتدمير البنية التحتية فحسب؛ بل وعملت أيضا على تفكيك روابط المجتمع، بعد أن طالت بتأثيراتها على الإنسان نفسه وأخلت بتوازنه النفسي والعقلي.
الميراث والعلاقة الزوجية
تتربع قضايا الميراث والنزاعات المتعلقة به، والمشاكل الناتجة عن إنهاء العلاقة الزوجية، على رأس الأسباب المؤدية لارتكاب الجرائم الأسرية في اليمن، وفقا لما يراه الخبير القانوني القاضي علي مرشد العرشاني.
ويؤكد العرشاني، ضمن حديثه لـ"يمن شباب نت"، على أن "التشريعات اليمنية، وعلى رأسها الدستور، خصّت الأسرة بنص خاص نظرًا لأهميتها وتقديسًا لمكانتها في بناء المجتمع، وذلك في المادة (26) من دستور عام 1991 وتعديلاته والتي نصت على أن: "الأسرة أساس المجتمع قوامها الدين والأخلاق وحب الوطن يحافظ القانون على كيانها ويقوي أواصرها".
ويضيف، "أن قانون الأحوال الشخصية اليمني رقم (20) لسنة 1992 وتعديلاته قد نظم الأسرة ككيان، سواء من ناحية النسب، أم من ناحية المصاهرة، كما نظم أواصر الحياة الزوجية وحدد حقوق كلاً من الزوجين والتزامات كل منهما، كما حدد أيضا طرق انتهاء العلاقة الزوجية بالطلاق أو الفسخ أو الخلع، ونظم أيضاً طرق توزيع التركة وتحديه أنصبة الميراث كما هي مقررة شرعاً".
وتابع العرشاني: "من الناحية الحقوقية، نجد أن المشرع اليمني قد أحاط كيان الأسرة بترسانة تشريعية هائلة، نظمت كافة أوجهها بما لا يدع مجال للتلاعب أو الخداع، ولكن قد يتجرأ البعض على خرق هذه القواعد، أو قد لا يرضى بما ألزمه به القانون، فتراوده نفسه لارتكاب جريمة في حق أسرته، سواء أكان الاعتداء من الزوج تجاه زوجته، أم من الأخ تجاه أخيه أو غيرهم".
قصور تشريعي
ونوه القاضي العرشاني إلى أن "الجرائم الأسرية تتنوع بين: القتل، والضرب، والجرح، وتقييد الحرية، إضافة إلى الإرهاب النفسي والذهني والإساءة اللفظية، منوها إلى أن الوازع لارتكاب هذه الجرائم غالباً ما يكون بسبب الطمع أو الحمق وضعف النفس".
وأكد "أن المشرع اليمني جرّم كافة الأفعال التي تطال سلامة الأشخاص، وقد أفرد لها بابا خاصا، هو الباب العاشر من قانون الجرائم والعقوبات اليمني رقم (12) لسنة 1994 وتعديلاته، والذي جاء تحت عنوان الجرائم الواقعة على الأشخاص والأسرة".
وعلى الرغم من النصوص القانونية التي كفلها الدستور والقانون، وكذا التشريع الإسلامي لحفظ حياة الإنسان، بغض النظر عن قرابته أو جنسه أو لونه؛ إلا أن ثمة قصور في التشريع اليمني، يرى خبراء قانونيون أنه من الواجب تلافيها للحد من انتشار الجرائم الأسرية.
وفي هذا الصدد، يؤكد الدكتور محمد الحاج- أستاذ القانون الدولي العام بجامعة صنعاء، والمحامي المترافع لدى المحكمة العليا- على أن "هناك قصورًا في معالجة التشريع اليمني لجريمة قتل الأب لابنه أو ابنته، حيث أخذ المشرع اليمني بحديث (لا يُقاد الوالد بالولد)، ومعنى ذلك أنه لا يمكن الحكم بإعدام الأبّ القاتل قصاصًا".
ويستدرك لـ "يمن شباب نت"، أنه ومع ذلك "بإمكان القاضي الحكم بالقصاص تعزيرًا"، مستشهدا بهذا الصدد بما حصل مع الأبّ الذي أغرق ثلاث من بناته بصنعاء، حيث تم الحكم عليه بالإعدام تعزيرًا، وتم تنفيذ الحكم بحقه.
وأضاف: "بالنسبة لجريمة قتل الزوج زوجته والعكس، فهي مثل أية جريمة أخرى، غير أن اسقاط أبناء الزوج أو الزوجة أو أحدهم لحقهم في القصاص، يؤدي الى الحبس تعزيرًا مع الدية، والحال ذاته بشأن قتل الشقيق لشقيقه أو لشقيقته، فعادة ما تعفو الأم أو يعفو الأب فيسقط القصاص".
حلول ومقترحات
ويؤيد القاضي العرشاني ما ذهب إليه الدكتور محمد الحاج، بشأن وجود قصور في التشريعات اليمنية فيما يخص الجرائم الأسرية، مشيرا إلى أنه "بالرغم مما وفره القانون اليمني من حماية للأسرة؛ إلا أنه ينقصه العديد من النصوص التي توفر الحماية الكافية لها، وعلى وجه الخصوص في مجال مُحاربة العنف ضد النساء والأطفال، على غرار التشريعات المقارنة كالتشريع المغربي والمصري وغيرهما".
وفي الوقت الذي أشار فيه العرشاني إلى وجود قصور في الناحية الإجرائية، فقد أكد على ضرورة "تخصيص قسم خاص في مراكز الشرطة والأمن، معنيّ ومختص بجرائم الأسرة، وعلى وجه الخصوص الاعتداء على المرأة والطفل".
وأشار إلى أن هذه الأمور الإجرائية "قد تحد من نسبة الجرائم الأسرية بصورة كبيرة، ويحقق الردع الخاص والعام لكل من تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم"، مضيفا: "كما يجب أن يكون هناك نيابة متخصصة بهذا النوع من الجرائم لما لها من خصوصية كونها تمس نواة المجتمع وهي الأسرة".
وبالإضافة إلى ذلك، يشدد القاضي علي العرشاني، في هذا الصدد، على ضرورة "تظافر جهود المجتمع بكافة فئاته وطوائفه، لخلق نوع من التوعية ضد خطر هذه الجرائم، وكذلك التوعية بما للأسرة من حقوق وما عليها من التزامات".
وأكد العرشاني على ضرورة التوعية "أن لكل من يطاله اعتداء جسدي، أو نفسي، أو لفظي، فإنه يحق له اللجوء إلى مراكز الشرطة والنيابة والقضاء، فنحن لم نعد نعيش وفقًا لقانون الغاب، وأن السكوت على أي اعتداء قد يؤدي إلى التمادي".
ودعا في هذا السياق، "الدولة للقيام بدورها في حماية الأسرة، والوقوف خلفها بتهيئة الظروف الأمنية المناسبة، وفتح روابط الاتصال مع المواطنين لتسجيل أي انتهاك قد يطالهم في إطار الخلافات الأسرية، والسعي الجاد في تسويتها قبل تفاقمها إلى ما لا يحمد عقباه".
الحرب تخلق وحوشا
ويرجع الكثير من القانونيين، والأكاديميين المتخصصين في علوم النفس، تزايد مثل هذه الجرائم خلال السنوات الأخيرة، إلى تأثيرات الحرب وتداعياتها الاقتصادية والنفسية، بدرجة لم يعد من الممكن تجاهل أثارها على تفكك النسيج الاجتماعي والأسري.
ويؤكد معظم من تحدثوا حول هذه الجرائم، على أن طول أمد الحرب، ساعد على تسهيل عمليات القتل والاعتداء على الناس، كنتيجة طبيعية لانتشار السلاح، من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن عدد من المسلحين المنخرطين في القتال قد تحولوا إلى وحوش، فقدوا إنسانيتهم وتوازنهم النفسي، نتيجة لما يتعرضون له من ضغوط نفسية وأهوال مأساوية أثناء المعارك، الأمر الذي جعلهم يستسهلون عمليات القتل لأدنى سبب قد يواجهونه داخل المجتمع ومع أسرهم أيضا.