صورة مأساوية ومنكسرة، تبرز؛ كلما تناول أحدٌ ما موضوع جرحى الحرب والمعاقين؛ وهي صورة قد تبدو واقعية في ظل استمرار الحرب لعامها السابع، وتزايد أعداد الجرحى والمصابين، في مقابل الإهمال الحكومي وشحة الدعم والإسناد المقدم لهذه الفئة، التي قدمت التضحيات دفاعا عن دينها ووطنها.
تستمر الحرب اليمنية المستعرة في عامها السابع، مخلفة- حتى الأن- أكثر من 24,000 جريحا في محافظة تعز وحدها، بينهم 3,500 معاقا، بحقوق مهدرة، وإهمال حكومي متعمد؛ ووجه بأصوات الجرحى في وقفات احتجاجية كثيرة متواصلة، صُعدت مؤخرا لتصل إلى إغلاق مقر السلطة المحلية، مطالبة باستكمال العلاج لبقية الجرحى وصرف رواتبهم ومخصصاتهم.
ومع أن مجتمع الجرحى والمعاقين يكبر ويتسع، ويسوء وضعها كلما طال أمد الحرب التي أشعلتها ميليشيات الحوثي الإرهابية بانقلابها على الدولة في سبتمبر 2014، إلا أن واقع حال هذه الشريحة ليس كله مليءٌ بالمآسي والجراح، أو بالشكوى والتذمر واليأس والإحباط، وتوقف الزمن عند لحظة بعينها..
فعندما تبحث حولك، لن تعدم مثل تلك النماذج المشرقة، التي تجاوزت حياة الحزن والألم وقسوة الإعاقة، لتتحرك قدما مع عجلة الزمن؛ تغذّ الخطى نحو الحياة المفعمة بالأمل، لتحقيق طموحاتها وأحلامها بالتميّز المجتمعي.
وتزخر قاعات الجامعات بتعز بمثل أولئك الجرحى المتميزون، ممن غلبت هممهم إعاقاتهم، فكانوا نماذج يحتذى بها في المثابرة والعزم؛ حيث لم يقعدهم مصابهم- في خسارة جزء من عافيتهم- عن ممارسة حياتهم الطبيعية بشكل فعّال..
"هيثم" أحلام لا تعيقها الإعاقة
فهذا الجريح "هيثم عبده أحمد"، (28 عاما)، تعرض لطلقتين من قناص حوثي، استهدفتا أسفل رأسه من الخلف، ما أدى إلى إصابته بشلل في أطرافه السفلية، ليخضع على إثرها للعلاج في الخارج؛ وحين عاد لم تمنعه إعاقته، التي ظلت تلازمه حتى الأن، عن مواصلة دراسته الجامعية.
يقول هيثم لـ"يمن شباب نت" إنه أثناء ما كان يتلقى علاجه في الخارج، اتخذ قراره هذا: "حال عودتي إلى اليمن سأواصل دراستي الجامعية"، كيفما كانت حالته الصحية. وها هو الآن، رغم إعاقته، يحرص هيثم على الانتظام في دراسته؛ فتجده يحضر إلى الجامعة ويغادرها، متكئا على عكازين، يجر نفسه عليهما بخطى ثقيلة، دون أن يفتّ ذلك من قوة إرادته شيئا.
قبل الحرب، كان هيثم طالبا في المستوى الثالث، تخصص رياضيات؛ "ثم جاءت جماعة الحوثي الرجعية لتخرجنا من قاعات الدراسة إلى ساحات المعركة"، يقول هيثم ضمن حديثه لـ"يمن شباب نت" عن حياته قبل الإعاقة التي تعرض لها أثناء دفاعه عن مدينته (تعز)، حين أضطر، وأمثاله الكثيرون من طلاب الجامعات اليمنية، إلى ترك مقاعدهم الدراسية قسرا، وحمل السلاح دفاعا عن مدنهم من اجتياح ميليشيات الحوثي الإرهابية.
يتذكر هيثم تاريخ إصابته بدقة: "كان ذلك تمام الساعة العاشرة صباحا، بتاريخ 11 من شهر يوليو/ تموز عام 2016"، وبحسب ما يتذكر، فقد صادف ذلك اليوم "ثالث أيام عيد الأضحى المبارك".
غير أن تلك الإعاقة الدائمة، التي شلّت قدميه، ما كان لها أن تشلّ إرادته وتسلبه أحلامه: "قبل الإعاقة كانت لدينا أحلام، وبعدها أيضا لا زالت لدينا أحلام" يؤكد هيثم بنبرة حماسية متقدة.
ذلك أن الإعاقة بالنسبة له: "تصيب الجسد، لكنها لا تستطيع أن تقمع العقل أن يكف عن التفكير، ولا الروح عن التوق للمعالي، كما أنها لم تستطع أن تسقط دورنا ومسؤوليتنا في المجتمع"، يقول هيثم بالحماسة ذاتها، مستدركا: "وهذا ما يدفعنا لاستكمال مسيرتنا التعليمية، وهي واحده من الطموحات التي أسعى جاهدا لتحقيقها".
صحيح أن "هيثم" لم يستطع مواصلة دراسته السابقة في نفس تخصصه (الرياضيات)، ومن حيث توقف في المستوى الثالث بجامعة تعز الحكومية، لعدة أسباب، إلا أنه لم يتوانى عن انتهاز الفرصة التي أتيحت له ولزملائه الجرحى بمجانية التعليم الجامعي، ليلتحق بجامعة "الجند" للعلوم والتكنولوجيا (جامعة خاصة)، بتخصص آخر في كلية الشريعة والقانون.
فقد نجحت رابطة جرحى تعز، وفقا لأمينها العام "فهد هزبر"، من انتزاع قرار من رأس السلطة المحلية بتعز بمجانية التعليم للجرحى في الجامعة الحكومية وعدد من الجامعات الخاصة، مؤكدا أن الرابطة ما زالت تواصل مساعيها للتنسيق لهم في مختلف الجامعات الأخرى المتبقية.
ويقول هزبر، ضمن حديثه لـ"يمن شباب نت"، إن مثل هذه الجهود التي تقوم بها الرابطة في هذه الجانب يمثل أهمية كبيرة لإعادة دمج الجرحى في المجتمع، مؤكدا على أن "إشغال الجرحى ودمجهم في المجتمع، يمثل جزء من العلاج".
"زكريا" كفيف يواصل مقاومته بالتعليم
ومثله، زميله الجريح "زكريا جازم"، (26 عاما)، الذي فقد بصره جراء طلقة (رصاصة) أصيب بها أثناء مشاركته في حرب تحرير مدينة تعز من ميليشيات الحوثي، إلا أن إعاقته البصرية تلك، ما كان لها أن تعيقه- هو الأخر- عن العودة إلى كراسي الجامعة، والانتظام في دراسته الجامعية.
قبل الحرب، كان زكريا طالبا في المستوى الثاني إدارة أعمال، كلية التجارة، بجامعة تعز الحكومية. وبكل زهو يتحدث زكريا لـ"يمن شباب نت" عن تلك الفترة، قائلا: "حينها كنا، كشباب مفعم بالحياة، نحلم بمجتمع يسوده العدل والمساواة، وتُحقق فيه الكرامة الإنسانية والحرية..، حتى ظهرت مليشيا الحوثي لتعوق تحقيق كل هذه الطموحات، وبالتالي أصبح دحرها ومقاومتها هو الهدف الأول لنا.."
كزميله "هيثم"، كان زكريا ضمن طلاب الجامعة المقاومين، الذين اضطروا لترك مقاعدهم الدراسية، وحمل السلاح لدحر ميليشيات الحوثي الإرهابية من محافظتهم (تعز).
وفي 28 يناير/ كانون الثاني من عام 2018، تلقى زكريا رصاصة أصابته بالعين، ليخرج على إثرها للعلاج في الخارج، ودون أي جدوى عاد وقد فقد كلتا عينيه، لينتظم مجددا في الدراسة الجامعية، لكن بتخصص آخر في كلية الشريعة والقانون بجامعة الجند الأهلية، مستفيدا من قرار مجانية التعليم للجرحى.
تمكنت تلك الرصاصة الحوثية الخبيثة من أطفاء النور في عيني زكريا، إلا أنها لم تطفئ نور قلبه، حيث يستمد منه عزيمته؛ فتراه يثابر على الحضور للدراسة رفقة صديق له، يستند عليه ذهابا وإيابا، وفي معظم تحركاته داخل الجامعة.
ويعتبر زكريا التحاقه بالتعليم الجامعي، رغم إعاقته البصرية؛ جزء من مواصلة المقاومة ضد الميليشيات الانقلابية، ولكن بطريقة أخرى: "في السابق قاومنا تلك الميليشيات بالسلاح، وها نحن اليوم نقاومها باستكمال تعليمنا، لأنها جماعة لن تبقى وتستمر إلا في مجتمع جاهل".
بعزيمة وإصرار، واصل "زكريا" حياته الطبيعية، وقد شرع في تحقيق أحلامه مجددا، بدءا ببناء عشه السعيد، بالزواج، حيث رُزق بطفله الأول، وصولا إلى التحاقه بالجامعة لمواصلة دراسته الجامعية، على أمل أن يستكمل عبرها تحقيق طموحاته دون أن تمنعه إعاقته عن ذلك.
صعوبات وتحديات
بالإضافة إلى تلك التحديات الجماعية التي يعاني منها معظم من حولهم في المجتمع، من غلاء في المعيشة، وضعف النظام الصحي، والحصار المفروض على تعز وتأثيره على حركة التنقل بين المحافظات، وغيرها من المشاكل والتحديات والصعوبات الأخرى، جراء الحرب ونتائجها الكارثية..
ثمة تحديات أخرى إضافية، يشكو منها "هيثم" و"زكريا"، وغيرهم من الجرحى، والتي تتعلق باحتياجاتهم الخاصة، وبشكل خاص باعتبارهم جرحى حرب مهملين، أكثر من كونهم معاقيّن، ينتمون لشريحة ذوي الاحتياجات الخاصة..
وأبرز تلك المشاكل والتحديات، كما يؤكد زكريا "انقطاع رواتبنا لعدة أشهر". وبسبب ذلك، تقريبا، يشكو زميله هيثم "من عدم توفر قيمة البترول، أحيانا، للذهاب إلى الجامعة، أو إلى مركز العلاج الطبيعي"، وهذا- كما يقول- يشعره "بحزن شديد".
ويضيف هيثم: "نحن نقاوم جراحنا بكثير من الصلابة، ونتألم حين تغلبنا الظروف المادية".