لا يزال "مروان" يشكو من إصابة في قدمه اليمنى جراء حريق اندلع في محطة وقود استحدثت بشكل "عشوائي" بشارع وادي القاضي في مدينة تعز، جنوبي غرب اليمن..
صباح السادس والعشرين من مايو/أيار الماضي، تسبب ماس كهربائي في أحد الأسلاك المؤدية إلى خزان الوقود الرئيسي بإنفجار ضخم في محطة "الحداد" للمحروقات النفطية بمنطقة وادي القاضي، والتهم الحريق المحطة بأكملها مخلّفا أضرارا مادية وبشرية- كما يقول "مروان"، الذي كان يعمل في المحطة..
إلى جانب "مروان" أصيب 11 شخصا، بينهم أربعة من أفراد الدفاع المدني، بالإضافة إلى احتراق أربع مركبات وشاحنة..
"كُنا في حالة صدمة وذهول"، يصف مروان لحظات الحادثة، مضيفًا "ولولا وقوع المحطة في منطقة بعيدة عن السكان، لحدثت كارثة..".
بعد نحو ثلاثة أسابيع على الحادثة، شرع مالك المحطة في أعمال الترميم وصيانة الأضرار الناجمة عن الحريق، والتي تقدر بنحو 40 مليون ريال يمني، وفق مروان.
حوادث خطيرة متكررة
أدت الحرب، التي اندلعت في البلاد عام 2015 بفعل إنقلاب ميليشيات الحوثي، إلى إنتشار الكثير من محطات بيع النفط ومشتقاته بشكل عشوائي كبير، معظمها في مناطق مأهولة بالسكان، دون مراعاة لأدنى معايير السلامة والأمان، وسط غياب الرقابة عليها من قبل السلطات المعنية..
ومع هذا الانتشار المحموم بمحافظة تعز، بعيدا عن التزام معايير السلامة وأدواتها، وفي ظل غياب الرقابة وتفعيل القوانيين، أصبحت حوادث الحريق في محطات تعبئة البنزين والديزل والغاز، تتكرر بشكل مخيف ومثير للقلق..
في هذا التقرير وثّق "يمن شباب نت" خمس حوادث مشابهة خلال عام واحد (من الفترة مايو 2020 إلى مايو 2021)، وقعت في المناطق الخاضعة لإدارة سلطات الحكومة الشرعية. بمحافظة تعز.
أكثر من 150 محطة عشوائية
في شارعي "التحرير" و"جمال"، وسط مدينة تعز الخاضعة لسيطرة قوات الحكومة الشرعية، تنتشر العشرات من محطات البنزين والغاز بطريقة "عشوائية" غير رسمية.
ويقول أحد القاطنين جوار محطة بنزين في شارع "ديلوكس" وسط المدينة، إن "إنشاء محطة وقود في هذا الوقت أصبح أمرًا ممكنًا، فلا توجد ضوابط أو اجراءات رسمية، لا سيما في ظل استمرار الحرب".
ويوجد في مدينة تعز أكثر من150 محطة عشوائية، وفقا لرئيس نقابة موظفي فرع شركة النفط في تعز، فتحي العبسي. (من المرجح أن هذا الرقم ليس هو الأحدث، بالنظر إلى استمرار توسع هذه المحطات غير القانونية بشكل ملفت جدا)
وفي سياق حديثه لـ"يمن شباب نت"، يصف العبسي هذا الانتشار العشوائي الكثيف للمحطات بأنها عبارة عن "قنبلة موقوته".
ومع تكرار حوادث انفجار محطات الوقود، يتذمر الكثير من المواطنين القاطنين بمحاذاة المحطات، كونها تشكل خطرًا حقيقًا على حياتهم قد يحدث في أي لحظة، كما يقول المواطن عبدالقوي الشرعبي، لـ"يمن شباب نت".
ويعتقد الشرعبي، الذي يسكن في حي تتواجد فيه محطة لتعبئة الغاز، أن غياب دور الجهات الرقابية، لا سيما في ظل الحرب، شجّع الكثيرين على الاستثمار في الوقود بطريقة غير شرعية، "حتى ولو كان ثمن ذلك حياة المواطنين".
خطر حقيقي.. وتواطؤ
"الأسوأ في عمل هذه المحطات هو مخالفتها لشروط السلامة، والكارثة الكبرى تكمن في تواجدها في شوارع عامة تكتظ بمئات المارة والمركبات"، يقول يوسف الراسني، مستدلا على ذلك بشارع التحرير الذي يحوي العشرات من محطات بيع المحروقات.
وأضاف لـ"يمن شباب نت" أن هذا الشارع يعتبر الثاني بعد شارع جمال، من حيث النشاط وحركة الشارع، ويضم المئات من المباني السكنية والمحال التجارية، والأمر نفسه على بقية الأحياء السكنية، واصفا تواجد المحطات بهذا الشكال بأنها "خطر حقيقي".
ويرى أن الإنتشار اللافت للمحطات خلال العامين الأخيرين، يعكس إهمال السلطة المحلية، ولا يستبعد أن تكون بعض تلك المحطات تابعة لمسؤولين "نافذين" في السلطة.
وأواخر عام 2019، أعلنت السلطة المحلية في تعز عن حملة أمنية لإزالة محطات الوقود والغاز من وسط الأحياء السكنية في المدينة. وحينها أزالت الحملة نحو 30 محطة بنزين وغاز منتشرة بشكل عشوائي في أحياء التحرير والروضة وبير باشا. لكن سرعان ما عادت تلك المحطات بشكل أكبر مما كانت عليه في السابق..!!
وأعادت حادثة انفجار محطة الغاز وسط مدينة البيضاء مطلع يناير/ كانون الثاني 2021، والتي تسببت في مقتل وإصابة عشرات الأشخاص، إلى ذهن مسؤولي السلطة المحلية بتعز خطورة وجود محطات الوقود ومضخات بيع الغاز وسط الأحياء السكنية المكتظة؛ وعلي إثر ذلك أصدرت قراراً يقضي بإزالة جميع محطات المشتقات النفطية العشوائية داخل المدينة، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، حيث ظلت الأمور كما هي عليه..!!
وعند البحث عن الأسباب، كشف مصدر في السلطة المحلية بتعز، لـ"يمن شباب نت"، إنه تم إعادة المحطات العشوائية مقابل دفع مبالغ مالية، متهمًا مسؤولين في رأس هرم السلطة المحلية بالتواطؤ في إعادة انتشار تلك المحطات مجددا.
غياب الدور الرسمي
تتنوع الأسباب التي تقف وراء الانتشار العشوائي لتلك المحطات، أبرزها "غياب مخصصات الوقود التي لم تعد تصرف منذ خمسة أعوام" كما أكد لنا ذلك مروان عبده، وهو مسؤول في محطة معتمدة رسميًا لدى شركة النفط.
وأضاف لـ"يمن شباب نت"، أن غياب دور شرطة النفط، وعدم وجود مخصص من الوقود لمحافظة تعز، هو من شجّع تجار السوق السوداء على إنشاء محطات عشوائية غير رسمية. لذلك، يجزم أنه "إذا توفر المخصص من الوقود، فستختفي المحطات العشوائية".
تمتلك المحطة، التي يديرها مروان، تصريحا رسميا من فرع شركة النفط الحكومية. لذلك، فهي- ومثيلاتها من المحطات المصرحة رسميا- لديها تأمين لدى شركة النفط، في حال تعرضت لحادث حريق أو غيره..
وقبل اندلاع الحرب، كانت محطته تستقبل كل أربعة أيام قاطرة بسعة 40 ألف لتر من البنزين. لكن مع إندلاع الحرب وغياب دور فرع شركة النفط في تعز، أصبح معظم مالكي المحطات، سواء المُرخصة أم العشوائية المستحدثة، يحصلون على الوقود من السوق السوداء في منطقة الصبيحة بمحافظة لحج.
"ولا يوجد سعر رسمي، أو مستقر عند شراء الوقود"، كما يقول محمد علي، الذي يعمل في محطة وقود غير مرخصة..
ويضيف علي لـ"يمن شباب نت": "نشتري من أسواق سوداء خارج تعز، وبأسعار غير منتظمة. فمثلا في الصباح يكون سعر اللتر الواحد من البترول 600 ريال، وفي المساء يرتفع إلى 670 ريال.. وهكذا..".
وإزاء كل هذه الاختلالات، لا تضطلع شركة النفط في تعز، بأي دور. وأكد رئيس نقابة الموظفين، فتحي العبسي، إن دور الشركة "مهمش وشبه مقيد"، (...)، مضيفا: صحيح يوجد لدينا مدير عام للفرع، لكن لا يوجد أي نشاط للشركة..!!
وتمتلك شركة النفط بتعز مقرا ضخما وحديثا، في شارع جمال، أهم وأكبر شوارع المدينة، لكنه تحول بعد الحرب إلى مقر مؤقت للسلطة المحلية بالمحافظة وإداراتها المختلفة.
وأعتبر العبسي ذلك أحد الأسباب التي أضعفت دور الشركة وأدائها. وفي النتيجة، كما يقول، أدى غياب دور الشركة وصعوبة إعادة تفعيل نشاطها، إلى انتشار مثل هذه المحطات العشوائية غير الرسمية، والتي تم إعادتهن- بعد إزالتهن- مقابل دفع رسوم من بعض أصحاب تلك المحطات..!!
وحول ما يتردد بشأن أمتلاك مسؤولون أو شخصيات نافذة في السلطة المحلية، سلسلة من تلك المحطات العشوائية، أو المشاركة فيها مع مستثمرين أخرين، وبالتالي وقوفهم وراء عودة انتشارها وإضعاف دور شركة النفط، قال العبسي: "لا يقوم ببناء هذه المحطات إلا شخصيات نافذة، أو أشخاص مدعومين منها، ويحظون بحمايتهم".
وشدد على أن الحل "يكمن في تمكين شركة النفط من القيام بعملها داخل المحافظة".
شركة النفط توضّح الموضَّح
توجهنا بكل تلك المشاكل والأختلالات والإنتقادات، إلى مدير فرع شركة النفط بتعز سعيد الشجاع..
أكد الشجاع لـ"يمن شباب نت"، أن جميع محطات الوقود المنتشرة والمستحدثة في مدينة تعز "عشوائية، وبلا تصاريح رسمية، ومخالفة للمسافة القانونية".
وبحسب توضيحه، تنص اللوائح على أن المسافة بين كل محطة وأخرى، "يجب أن لا تقل عن اثنين كيلو متر".
وخلال لقاءاتنا ببعض أصحاب المحطات العشوائية، برر عدد منهم موقفه بكون الشركة ترفض منح أي تراخيص جديدة. وردا على ذلك أوضح المدير أن التصاريح بإنشاء محطات هي من مسؤولية شركة النفط، وأنها لا تمنح أي تصريح إلا في حال مطابقة المواصفات.
وأضاف أيضا: "في الوقت الحالي، لا توجد مساحة لإنشاء محطات جديدة في تعز، فالمدينة حاليًا محصورة للوكلاء السابقين".
ويدخل ضمن مسؤوليات الشركة "عمل عقود تشغيل للمحطات، وعقود تشغيل للناقلات التي تنقل المواد البترولية بموجب مواصفات محددة".
وأدى ضعف حضور شركة النفط بتعز، وعدم تمكنها من أداء تلك المهام والمسئوليات، إلى انتشار السوق السوداء لبيع النفط، الأمر الذي ساعد بدوره على انتشار تلك المحطات العشوائية بصورة غير رسمية، ومخالفة لمعايير عملها..!!
وقد أكد مدير فرع الشركة على أن الحكومة أوقفت في وقت مبكر صرف مخصصات المحافظة من الوقود، كما أوقفت أيضا رواتب موظفي الشركة، وأنه لا يوجد أي دور للحكومة لإعادة تشغيل فرع الشركة وأعتماد رواتب لموظفيها..
وخلال بحثنا في هذا الموضوع، كشف لنا مصدر خاص في فرع الشركة بتعز، فضل عدم الافصاح عن هويته، أن وزارة النفط في عدن هي من ترفض صرف حصة تعز من الوقود، مشيرا إلى أنها وبدلا من ذلك تحث التجار على شراء النفط من السوق السوداء، وذلك لمصلحة أحد رؤوس النفط الكبيرة المعروفة باحتكارها للنفط وبيعه في الأسواق السوداء..!!
ولوحظت شاحنات طويلة (نوع ديانا) تحمل على ظهرها صهاريج بلاستيكية مبعأة بالبترول والديزل، وهي تمر بشكل يومي على محطات بيع المحروقات المنتشرة عشوائيا لتزويدها بالوقود المطلوب. الأمر الذي يؤكد أن العملية تسير بشكل منظم من قبل الجهات، والأشخاص، الذين يديرون السوق السوداء لبيع المشتقات النفطية بتعز.