يحل رمضان على اليمنيين هذا العام، وأسعار المواد الغذائية والخدمات الاستهلاكية، وغيرها، في أوج ارتفاعها، أكثر من أي عام مضى..!
بعد ست سنوات متواصلة من الحرب، التي انطلقت في سبتمبر 2014؛ أقل ما يمكن أن يوصف به الواقع المعيشي للمواطن اليمني، هو الجحيم؛ في ظل استمرار تدهور أسعار صرف العملة اليمنية (الريال) مقابل العملات الأجنبية، وسط عجز وفشل ذريع من الحكومة الشرعية، والمتمردين الانقلابيين، والحلفاء الخارجيين، والوسطاء الدوليين، في اتخاذ خطوات وإجراءات حازمة لإيقاف هذا النزيف المتواصل، عاما إثر أخر..!!
يكتوي المواطن اليمني بتقلبات أسعار صرف العملات، في الحالين: صعودا وهبوطا..!!؛ فكلما ارتفع سعر صرف الدولار مقابل الريال اليمني، كلما ارتفعت أسعار المواد الغذائية وبقية المواد الأخرى، والتي لا تنخفض بانخفاض الصرف وارتفاع قيمة الريال مجددا..!! والسبب- كما يرجعه أقتصاديون- يعود إلى خشية التجار من استمرار تقلب أسعار الصرف بين يوم وآخر، وعدم وصولها إلى مرحلة استقرار واضح يقوم على إجراءات اقتصادية حقيقية.
هذا في نطاق الحكومة الشرعية. فماذا عن الوضع والحالة الاقتصادية في مناطق سيطرة الميليشيات الحوثية؟!
صحيح أن ثمة شبه استقرار في سعر صرف الدولار مقابل الريال اليمني، وتراوحه ما بين 600 – 650 ريال، في المناطق غير المحررة، إلا أن الوضع المعيشي للمواطن، ما يزال أسوأ بكثير، هناك، عما هو عليه في مناطق الشرعية. وذلك لتوقف صرف المرتبات منذ اواخر 2016، عقب قرار الحكومة اليمنية نقل البنك المركزي اليمني إلى العاصمة الموقتة عدن، وماتلاه من إجراءات..
البداية الحقيقية
بمراجعة سريعة للأحداث والأرقام الاقتصادية، سنلاحظ أن أسعار الصرف لم تتدهور بشدة إلا في الفترة التالية؛ ما بين اغسطس 2017 و2018. وهذا لا يبدو غريبا اذا ماعرفنا أن جماعة الحوثي، وشركائها في الانقلاب، قاموا بنهب الاحتياطات النقدية من العملة الصعبة في البنك المركزي اليمني مع اواخر 2014، البالغة خمسة مليار دولار أمريكي.
كانت تلك هي البداية الحقيقية للأزمة المالية في البلاد، لتتلوها بعد ذلك عمليات نهب مستمرة لأرصدة مختلفة حتى العام 2018. وفي أكتوبر/ تشرين الأول من هذا العام، شهدت البلاد أول أكبر عملية ارتفاع في سعر الصرف، حيث وصل سعر صرف الريال إلى 800 ريال مقابل الدولار الواحد، و 210 ريال مقابل الريال السعودي.
كان ذلك إيذانا بتدهور شديد في الإقتصاد اليمني، تلاه تدهور مستمر في العملة اليمنية إلى اليوم، من ناحية شحة تواجد العملة المحلية (بالريال اليمني)، في نطاق الميليشيا، وارتفاع أسعار المواد الغذائية وسواها في نطاق الحكومة اليمنية.
وهذا يستدعي منا معرفة السبب الذي أدى لهذا التدهور الكبير للعملة، منذ العام 2016، واستمراره ليصل إلى أعلى مستوياته اليوم، مع عدم قدرة الحكومة على معالجة المشكلة..!!
الأرصدة المنهوبة
ماهو حجم الأرصدة المالية المنهوبة من مؤسسات اليمن، منذ ما بعد انقلاب 21 سبتمبر 2014؟! وإلى أين ذهبت؟!
هذان السؤالان يقودانا إلى معرفة الأسباب الحقيقية التي قادت لهذا التدهور الشديد في الاقتصاد اليمني، وفي سعر صرف العملة اليمنية مقابل العملات الأجنبية.
وللبحث في إجابة الشطر الأول من السؤال، تتبعنا عدد من التقارير الأقتصادية، التي نشرت في عدد من المواقع الصحفية المختلفة، فيما يتعلق بعمليات نهب الأرصدة المالية للجمهورية اليمنية بعد انقلاب 21 سبتمبر 2014، نذكر أهم ماجاء فيها على النحو التالي:
"مصادرة مليارات الدولارات من الاحتياطيات النقدية للبنك المركزي اليمني، وبقية البنوك والهيئات الحكومية والصناديق المالية العامة، بالاضافة إلى 1,23 تريليون ريال يمني من الأرصدة المالية للبنك عبارة عن أرصدة بنوك واحتياطيات مودعة لأذون خزانة وسندات، وصكوك حكومية، اضافة لأرصدة شركات الاتصالات وشركات نفطية وتجارية وصناعية وخدمية، وأرصدة أخرى، عقب قرار الحكومة اليمنية بتحويل البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن في سبتمبر 2016..
وتشير التقارير إلى أن ذلك، كان صراعا خفيا يدور بين طرفي الانقلاب العسكري في صنعاء (صالح وأنصاره والحوثي وجماعته)، ولم يظهر منه سوى عجز سلطات الانقلاب عن دفع المرتبات العامة للموظفين بالقطاع العام والعسكريين..
وتفيد التقارير: حتى 8 ابريل/ نيسان 2017، حدث تغييرا مهما جداً، لم يفطن إليه كثيرين حينها، وتمثل بسيطرة مجاميع حوثية على مبنى "الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية" وطرد رئيسها السابق، وتعين القيادي الحوثي عبدالسلام المحطوري نيابة عنه بالقوة. وبهذه الطريقة سيطرت الميليشيات الحوثية، عمليا، على 750 مليار ريال يمني، ما يعادل 3 مليار دولار حينها.
وبحسب تقارير رسمية، نشرها موقع "العربي الجديد"- مقره لندن- فقد أدى ذلك إلى حرمان المستفيدين من المرتبات التقاعدية، البالغ عددهم 140 ألف متقاعد، و 60 لألف موظف مدني بالقطاع العام، إضافة إلى 70 ألف متقاعد عسكري (عمليا تم سحب معظم هذه المبالغ مابين سبتمبر 2014 إلى أبريل 2017، والذي أعلن فيه الحوثيون للجميع مصادرتهم لأرصدة "الهيئة العامة للتأمينات الإجتماعية"
قبلها، تحدث بيان نقابي في 15 فبراير 2017، عن اختفاء 300 مليار ريال يمني، مايعادل 1,2مليار دولار أمريكي، من أرصدة "المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية" للقطاع الخاص والصناعي والخدمي. وتحدث البيان عن حرمان 11,093 موظفا متقاعدا في القطاع الخاص من رواتبهم خلال الثلاثة أشهر السابقة للبيان- أي من نوفمبر 2016، إلى يناير 2017.
وعموما، فإن إجمالي ما تمت مصادرته من أرصدة مؤسسات وهيئات التأمينات العامة، وصناديق التقاعد، والتأمينات الصحية الأخرى يصل إلى 1,28 تريليون ريال يمني، ما يعادل 6 مليار دولار أمريكي، تتوزع بين أرصدة أذون خزانة وسندات وصكوك حكومية ومشاريع أخرى..
أين ذهبت؟
تحدثت عدد من التقارير الأقتصادية، التي نشرت في عدد من المواقع الدولية، عن أرصدة مالية يمنية تم تحويلها إلى بنوك لبنانية، وذلك في سياق حديثها عن الأزمة الإقتصادية اللبنانية، على إثر الاحتجاجات الشعبية هناك، في تشرين 2019.
وأورد كلا من الكاتبين الاقتصاديين: محمد راجح، في موقع العربي الجديد؛ وآدم يحيى في صحيفة الاستقلال، معلومات تؤكد وجود عمليات سحب لأرصدة (يمنية)، من بنوك وشركات وشخصيات في صنعاء، وإيداعها في بنوك لبنانية، خلال الأعوام الأخيرة..
في إحدى فقرات التقرير الاقتصادي، الذي كتبه الأول في ذروة أزمة الصرف في يوليو/ تموز 2020، أورد فيه تصريحات منسوبة لرئيس جمعية المصارف اليمنية ن/حمود ناجي، يوضح فيها أن سبب انتقال الأموال من اليمن الى لبنان يعود إلى التسهيلات التي قدمتها بيروت للجانب اليمني، ولأن البنوك اللبنانية تعتمد مبدأ حفظ سرية الحسابات مثل البنوك السويسرية.
فيما أورد الأخر، في تقرير له في صحيفة الاستقلال، تصريحا للباحث اليمني المختص بالجوانب المالية المصرفية عبدالواحد العوبلي، أوضح فيها أن "انخفاض الائتمان الحكومي للإئتمانات المالية، جعل مصارف بقية الدول لا تقبل تحويل الأرصدة المالية المحولة بنكيا إليها، سوى المصارف اللبنانية"، والتي تؤكد جميع التقارير والاخبار على أنها قامت بتجميد عملية تحويل الأرصدة الاجنبية المودعة إليها بعد أزمة تشرين 2019 ببيروت..!!
الخلاصة
نخلص من كافة الأرقام والأحداث التي ورد ذكرها، أن حالة الانهيار الاقتصادي والمالي الحاصل في اليمن يعود سببه الرئيس إلى إفراغ الخزينة العامة من الأموال، وخصوصا العملة الصعبة، عن طريق نهب ومصادرة معظم الأرصدة المالية من البنك المركزي وبقية البنوك والصنادق والشركات..
الأمر الذي سلب الدولة والشعب روح الحياة العامة، من خلال الانهيار المروع لسعر صرف العملة اليمنية مقابل العملات الأجنبية، وللقيمة الشرائية للعملة اليمنية مقابل السلع التموينية والاستهلاكية الأخرى.
إن ماحدث للاقتصاد اليمني، اشبه بسلب روح الحياة من الجسد؛ كنتيجة طبيعية لمصادرة الثروات العامة، وأرصدة بنكية لتراكمات رأسمالية منذ عقود في عدة قطاعات. ليس ذلك فحسب؛ بل وأرصدة معاشات التقاعد لمئات الآلاف من المواطنيين؛ ما قوض الحياة الاقتصادية والاجتماعية لليمن واليمنيين كليا، حد أن الاقتصاد الحالي (المنهار) أصبح قائما على الوديعة السعودية في البنك المركزي اليمني، إضافة لإقتصاد الإغاثات والمنح والمساعدات الإنسانية لليمن بشكل عام.
بالتأكيد هناك عوامل أخرى ساعدت في بلوغ هذا الوضع الاقتصادي الهش، لا يمكن تجاهلها، أهمها: توقف معظم المنشآت الإيرادية العامة في الدولة، وخاصة النفطية منها، وكذلك عدم تفعيل المنشآت الحيوية الهامة مثل الموانئ البحرية والمطارات، وعدم توريد إيرادات المنافذ البرية الواقع معظمها في نطاق الحكومة الشرعية، الدائرة في فلك التحالف العربي الداعم لها.
كما أن حالة التشظي الكبير، الذي أحدثه التحالف في تنازع الحكم المحلي لنطاق الشرعية بين قوات موالية للشرعية وقوات موالية للمجلس الانتقالي المدعوم اماراتيأ، أدى إلى اختلالات إدارية ومالية في تحصيل الإيرادات المحلية والعامة لخزينة الدولة، وكذلك عدم ضبط وكالات الصرافة والتجار من التلاعب بسعر العملة وأسعار السلع بشكل عام
وفي المقابل، هناك الحوثي، ما زال يواصل نهب الخزينة العامة وأموال الدولة الإيرادية، من خلال تحصيل وجباية الضرائب والزكاة واتاوات أخرى لخزينته الشخصية، بينما يستفيد من ميناء الحديدة بموجب اتفاقية استوكهولم (في مارس/ آذار 2020 نهب الحوثيون مبلغ 50 مليار ريال من خزينة البنك المركزي بالحديدة، كان اتفق ستوكهولم نص على توريدها للبنك لتسليمها كرواتب لموظفي الدولة)..
ويبقى الفرق بين الشرعية والميليشيات، أن الأولى ما زالت ملتزمة بدفع رواتب الموظفيين حتى اليوم، رغم شحة مواردها؛ بينما الأخيرة تنصلت عن دفعها للموظفيين في مناطق سيطرتها، رغم كل تلك الأموال التي قامت- وتواصل القيام.