لعبت المقاهي الشعبية دوراً مهما في تاريخ مدينة عدن، جنوبي اليمن. فمنذ مطلع القرن الماضي، وتحديداً منذ العام 1910 ميلادية، برزت المقاهي الشعبية كأهم وسيلة للإتصال الجماهيري بين أبناء المدينة بمختلف أطيافهم وإنتماءاتهم ومهنهم..
وبشكل خاص، مثلت المقاهي الشعبية الشهيرة بعدن ملتقيات عامة للسياسيين والأدباء والمثقفين والمناضلين، وخصوصاً في مرحلة الثورة على الإستعمار البريطاني لجنوب اليمن (1962-1967)..
مقاهي للنضال في قلب الإحتلال
"فمنذ مطلع القرن الماضي، وتحديدا قبل ظهور وسائل الإعلام كالراديو والتلفزيون والصحف، كانت المقاهي بعدن بمثابة منتديات مفتوحه يلتقي فيها الناس لإحتساء الشاي وتبادل الأخبار والنقاش في مختلف أمور الحياة السياسية والإجتماعية..، إلى جانب لعب الورق، وهي ميزة حافظت عليها المقاهي الشعبية في عدن حتى اليوم.." بحسب الباحث في التاريخ العدني، فاروق ناصر.
وأضاف، ضمن حديثه لـ"يمن شباب نت": وحين اشتعلت شرارة ثورة (14-أكتوبر/ تشرين الأول 1963) ضد الإستعمار البريطاني لجنوب اليمن، كانت المقاهي الشعبية من أبرز الأماكن، التي إتخذ منها الثوار والفدائيين وعناصر مقاومة الإستعمار، وسيلة للتواصل وتحديد المهام وتوزيع المنشورات المحرضة للثورة، بل وساهم أصحاب تلك المقاهي في العمل الثوري من خلال تقديم المعلومات الإستخباراتية للثوار، وملاجئ سرية لإختباء المناضلين والفدائيين، وتوفير الماء والغذاء لهم..
ولم يقتصر الدور الثوري للمقاهى الشعبية في عدن، على دعم وإيواء عناصر حركة الكفاح المسلح الجنوبية ضد الإحتلال الإنجليزي فقط، وإنما مثلت ملاذاً آمنا لرجال الثورة والمناضلين ضد الحكم الإمامي في الشمال، الذين فروا من بطش الإمام الى عدن. وفقا للباحث التاريخي العدني، الذي يذكر لنا أهم وأشهر ثلاثة مقاهي شعبية تاريخية في مدينة عدن، لعبت مثل تلك الأدوار، هي: مقهاية "زكو" في كريتر، ومقهايتي "القميري" و"الشجرة" في الشيخ عثمان..
مقهى "الشجرة"
يقع هذا المقهى في مديرية الشيخ عثمان، ويعد واحدا من أشهر وأقدم المقاهي التاريخية بعدن. وأطلق عليه هذا الإسم نسبة للشجرة الواقعة على مدخله الشمالي. ويعود تأسيسه إلى ما قبل أكثر من نصف قرن؛ حيث تأسس المقهى في العام (1952) على يد الحاج "عبده مكرد العزعزي"، القادم من ريف محافظة تعز الشمالية، بعد رحلة كفاح شاقة وإغتراب في الحبشة إستمرت عشرون عاما.
ومايزال المقهى يكتسب شهرته الكبيرة حتى اليوم، خصوصا لدى رواده من كبار السن، الذين أصبح يشكل لهم جزء من حياتهم اليومية، كعادة توارثوها عن آبائهم، وكجزء أصيل من تاريخ مدينتهم. ويوميا يعج المقهى بالزحام الشديد، حتى أنك لا تكاد تجد مكانا للجلوس فيه، لا سيما في أوقات الذروة، التي تبدأ غالبا من بعد صلاة العصر، ويستمر التوافد إليه والجلوس لإحتساء الشاي ولعب الأوراق حتى وقت متأخر من المساء.
كما يكتسب المقهى شهرته أيضا بفضل موقعه وسط السوق، في شارع بيروت الذي يعتبر أكثر أحياء المدينة حركة وإزدحاماً، ويقابله في الطرف الأخر قسم "البوليس"- وهو مبنى تاريخي شهير مازال يحمل نفس هذا الإسم (police) حتى اليوم، وكان في السابق مخفراً لجنود الإحتلال البريطاني..
وتضفي شخصية مؤسسه المزيد من الشهرة على المقهى، لما يمتاز به من حكمة وصبر وحب لوظيفته في تقديم "الشاي العدني" الشهير، إلى جانب ما يقدمه المقهى من بعض الوجبات الشعبية الخفيفة واللذيذة، لتتجاوز شهرته محافظة عدن نحو سائر أرجاء اليمن، حيث أصبح إرتياده يمثل طقسا من طقوس كثير من الزوار الوافدين من محافظات أخرى، بإعتباره أحد أشهر المعالم الشعبية التاريخية في عدن..
غير أن "مقهى الشجرة" الشهير، لم يكن قد أكتسب شهرته فقط من جودة أصناف الشاي العدني الذي يقدمه بمذاقه الرائع، أو بموقعه في قلب الحي الصاخب فحسب، بل ومن شهرة بعض رواده الذين كانوا رموزاً في النضال والسياسة والأدب والفن..
فمن رواده السياسيين والمناضلين الرئيسين: سالم ربيع علي، وعلى ناصر محمد- (راجع مذكراته: "الطريق الى عدن")؛ ومن مشاهير الشعر والأدب: إدريس حنبله، ومحمد سعيد جرادة، وسلطان الصريمي، وشوقي شفيق؛ ومن مشاهير الفن: محمد سعد عبدالله، والعطروش، ومحمد مرشد ناجي..
تاريخ نضالي ضد الإحتلال البريطاني
يعتبر حسين سالم، (57 عاماً)، من أقدم رواد مقهى "الشجرة"، فقد كان والده يصطحبه معه إلى المقهى، وهو مايزال صغيرا، كطقس شبه يومي يبدأ من الرابعة عصراً حتى حلول المساء..
ويتحدث سالم عن بعض تفاصيل التاريخ النضالي للمقهي، قائلا لـ"يمن شباب نت": بالنظر إلى تزامن تاريخ إفتتاح مقهى "الشجرة" مع بداية تشكل خلايا المقاومة ضد الإحتلال البريطاني، فقد مثل المقهى أحد الأماكن التي تجتمع فيها عناصر المقاومة لتلقي التعليمات ورسم الخطط وتوزيع المهام والمنشورات، ورصد ومراقبة تحركات الجنود البريطانيين..
وأضاف: بالطبع، كان ذلك يحدث ضمن طقوس إحتساء "الشاي العدني"، والإستماع إلى الأخبار من إذاعة "صوت العرب" من القاهرة، والتي كنا نتابع من خلالها خطابات الزعيم "جمال عبدالناصر" الثورية، بالإضافة إلى أغاني أشهر الفنانين العرب حينها، أمثال: محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ..، وكذا إذاعة الـ "BBC" الشهيرة بإذاعة "لندن"، التي كانت أيضا تبث بالتناوب من جهاز الراديو الذي حرص العم "مكرد" على إقتنائه وفتحه كجزء من الطقوس اليومية، ليضفي بذلك نكهة خاصة على المقهى، ويكسبه مزيداً من الشهرة والرواد..
وإلى جانب الشاي العدني الشهير بمختلف أنواعه، يقدم المقهى أيضا بعض الوجبات الشعبية الخفيفة، كـ"خبز الطاوة" الشهير أيضا، ومنه الخبز الممزوج بالبيض، وفطائر "الخمير"، ومؤخراً أضيفت العصائر الطازجة بأنواعها..
المقاهي العدنية في العهد الإشتراكي
وفي العام 1967، رحل الإحتلال البريطاني بخروج أخر جندي عن جنوب اليمن، لتأتي حقبة العهد الإشتراكي الذي حكم جنوب اليمن خلال الفترة (1969- 1990) بقبضة حديدية هو الأخر، لم يسلم من بطشه كثير من أبناء الجنوب..!!
ويؤكد المؤرخ العدني "فاروق ناصر" على حدوث إنحسار كبير لرواد المقاهى الشعبية التاريخية في مدينة عدن، إبان سيطرة النظام الإشتراكي على جنوب اليمن، مرجعا ذلك إلى عدة أسباب، أهمها كما يقول: "الطبيعة البوليسية القمعية للنظام الإشتراكي الحاكم، والذي بسبب ذلك قام بإرسال مخبريه المتخفيين من جهاز أمن الدولة، إلى تلك المقاهى الشعبية، لما يدركه من أهميتها، بهدف إصطياد المعارضين للنظام الإشتراكي، أو الساخطين من حكمه وأدائه..".
لقد تأثرت المقاهى كثيراً في حقبة الحكم الإشتراكي لعدن وللجنوب، وأغلقت الكثير منها أبوابها.. ولم يتبق سوى عدد قليل منها، ظلت تعمل رغم مناخ الخوف السائد، بينها مقهى "الشجرة" في الشيخ عثمان، والذي بقي مشرع الأبواب، محافظا على طابعه المتخصص في تقديم الشاي بنكهته العدنية الرائعة، والشهيرة، حتى اليوم..
وفي 21 مايو /أيار 1990، أي قبل يوم واحد فقط من إعلان الوحدة بين شطري اليمن (في 22 مايو 1990)، توفى صاحب المقهى الحاج عبده مكرد العزعزي، مخلفاً ورائه- لأبنائه وأحفاده ولعشاق الشاي العدني- معلما تاريخياً تجاوزت شهرته مدينة عدن، لتبلغ سائر أرجاء اليمن الموحد..
ومع ذلك، مازال المقهى ينتظر اليوم روادا كبارا جدد، ليصوغ تاريخاً جديداً لمدينة عرفت بأنها ذات مزاج متقلب، إمتزج الكثير من تاريخها بكأسات شاي مقهى الشجرة.
عراقة الشهرة
إذا كنت ممن يزورون مدينة عدن لأول مرة، وأردت تذوق أصل "الشاي العدني" الشهير، وتستمتع بطقوس تذوقه، ما عليك سوى سؤال أي شخص تصادفه، أو مالكي وسائل المواصلات، عن "مقهى الشجرة "..
وهناك في العصرية، ستجد نفسك تشق طريقك بصعوبة بين طاولات خشبية فاضت برواد من مختلف الأعمار والمحافظات اليمنية؛ يمتزج نقاشهم الصاخب بضوضاء المارة مع أغاني يمنية يصدح بها جهاز المقهى، وتتمايل على إيقاعها قلوب المستمتعين بلذة إرتشاف العراقة العدنية تحت شجرة تمتد جذورها في أعماق التاريخ..
ستستقبلك إبتسامة "عصام أحمد عبده مكرد"- أحد أحفاد الجد المؤسس- وهو منهمكاً بتوزيع "كروت" الصرف للأيادي المتزاحمة، تنعش أصحابها رائحة الشاي المنبعثة من أباريق صفراء موقدة لاتعرف السكون،..
من الثالثة فجراً وحتى منتصف الليل، يواصل المقهى تقديم خدماته للزبائن. وبإستثناء هذا الحفيد الذي يدير كل هذا الإرث التاريخي العريق، وتلك الوجوه الجديدة، ومواضيع نقاشاتهم، وبعض التحسينات الطفيفة..؛ لاشيء تغير في المقهى وخدماته، كما يقول "عصام مكرد"، حفيد المؤسس، الذي يؤكد أن "مقهى الشجرة" مايزال أشبه بمنتدى يومي مفتوح، يلتقي فيه الأصدقاء من مختلف الأعمار، عصر كل يوم، للترويح عن النفس، والإستمتاع بتذوق الشاي العدني الأصيل، وخوض النقاشات المستفيضة في شتى أمور الحياة..
ليس ثمة مبالغة.. فإذا كنت شغوفاً بالتاريخ، وترغب في قراءة فصولاً من تاريخ عدن، وحالفك الحظ بالظفر بمكان شاغر على طاولات "مقهى الشجرة"، ماعليك سوى أن تؤمم وجهك شطر مبنى الشرطة التاريخي، ومع أول رشفة شاي، سيمكنك تخيل شبح "شوكيدارا"، وهو يسترق النظر من نافذة المبنى، وأن فدائيا سيهمس في أذنيك "الليلة سيتم تنفيذ المهمة".. حينها، ستدرك أن التاريخ مازال هو ايضاً يحتسي الشاي في "مقهى الشجرة"..