في زيارة استغرقت أربعة أيام، غادر القاهرة، الأربعاء 19 يوليو/ حزيران 2020، متوجها إلى مقر إقامته المؤقت بالعاصمة السعودية "الرياض"، رئيس الحكومة اليمنية، معين عبد الملك، مع وفد كبير، ضم وزراء كل من: الخارجية، والكهرباء والطاقة، والإعلام، والصحة والسكان، وشئون المغتربين، ورئيس جهاز الأمن القومي، وعدد من كبار موظفي رئاسة مجلس الوزراء.
وحمل رئيس الحكومة رسالة خطية من الرئيس عبد ربه منصور هادي، إلى الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ثم عقد سلسلة لقاءات مع نظيره المصري، مصطفى مدبولي، وأمين عام جامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط. فيما أجرى وزارء الحكومة، في الوفد المرافق، لقاءات عديدة مع نظرائهم المصريين. ومما يجدر ذكره، أن الدعوة لهذه الزيارة، تلقاها رئيس الحكومة اليمنية، بمقر إقامته المؤقتة بالعاصمة السعودية "الرياض"، في 9 حزيران/ يوليو 2020، عبر سفير مصر لدى "السعودية"، والمعتمد، كذلك، لدى اليمن.
واجهة سياسية وأبعاد استراتيجية
عزت وسائل الإعلام الرسمية، المصرية واليمنية، أسباب الزيارة إلى مناقشة مشاركة مصر في إعمار ما دمرته الحرب الناشبة في اليمن، منذ عام 2015، وبناء القدرات اليمنية في مجالات الطاقة الكهربائية، والإعلام، والصحة، وغيرها من المجالات، إلا أن الزيارة لم تسفر عن التوقيع على أي اتفاقية بين الطرفين، على عُرف أي زيارة رفيعة المستوى مثل هذه الزيارة؛ إذ يفترض أن لا تقل الاتفاقيات الموقعة فيها، عن عشر اتفاقيات، فضلا عن أن الزيارة كانت "استجابة لدعوة مصرية، وليس بمبادرة يمنية دافعها ذاتي"، وجاءت متزامنة مع نشاط حثيث لوزارة الخارجية المصرية في دول المنطقة، بينها زيارة وزيرها، سامح شكري، العاصمة الأردنية عمَّان، ورام الله بفلسطين، واستقبال القاهرة وفدا لما سمِّى بـ" المجلس الأعلى لشيوخ وأعيان القبائل الليبية"، الموالي للجنرال المتقاعد خليفة حفتر.
وذلك ما يثير شكوكا كثيرة حول طبيعة هذه الزيارة، وأبعادها، والغرض الحقيقي منها، في ظل تلميحات الجانبين إلى التعاون المشترك إزاء تحديات الأمن القومي للبلدين، وفي سياق الأمن القومي العربي، لا سيما أن الوفد اليمني ضم رئيس جهاز الأمن القومي، اللواء أحمد المصعبي.
تأتي الزيارة في ظل عدد من التحولات الإقليمية، الأمنية والعسكرية، التي تعد تهديدا للأمن القومي المصري، وفقا للتصريحات الصادرة عن الحكومة المصرية؛ أولها التدخل العسكري التركي في ليبيا لدعم حكومة فايز السرَّاج بطرابلس، وما سببه ذلك من تراجع كبير في نفوذ وسيطرة قوات الجنزال المتقاعد خليفة حفتر، المناوئة لحكومة السراج، التي تتلقى دعما سياسيا وعسكريا ولوجستيا من الإمارات والسعودية ومصر؛ مما دفع البرلمان المصري، في 20 تموز/ يوليو 2020، إلى الموافقة على تفويض الجيش المصري للقيام بــ"مهام قتالية خارج حدود الدولة المصرية، للدفاع عن الأمن القومي المصري، في الاتجاه الاستراتيجي الغربي". فضلا عن تصاعد نشاط البحرية التركية في خليج عدن، تحت مظلة مشاركتها ورئاستها الدورية لقوات الواجب الدولية "CTF-151"، المعنية بمكافحة القرصنة والسطو المسلح على السفن في المنطقة.
أما ثاني التحولات هو: قيام إثيوبيا بالملء التجريبي لسد النهضة، دون اكتراث للمفاوضات القائمة بينها وبين مصر والسودان، في ظل ضيق الخيارات الاستراتيجية المصرية أمام هذا التصعيد؛ ذلك أن مصر لا تربطها حدود جغرافية برية مع إثيوبيا، بما يمكنها من اللجوء إلى القوة، حماية لأمنها المائي، وحمل إثيوبيا على التوقف عن ملء السد، والعودة إلى المفاوضات السياسية.
في ضوء ما سبق، يصعب توصيف زيارة رئيس الحكومة اليمنية إلى مصر، في السياقات التي أثارتها وسائل الإعلام الرسمية في البلدين، ولأسباب أخرى منطقية تتعلق بالوضع السياسي اليمني، الذي لا يحتمل، حاليا، الحديث عن إعادة إعمار وبناء قدرات، في وقت لا تزال الحرب مستعرة، بل ومرشحة للاستمرار، بين الحكومة الشرعية وجماعة الحوثي الانقلابية بصنعاء، وبين الحكومة نفسها، والمجلس الانتقالي الجنوبي (الانفصالي)، وتعثر تنفيد اتفاق الرياض منذ التوقيع عليه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، مع ما تواجهه هذه الحكومة من تحديات مالية كبيرة، أعجرتها عن أهم الالتزامات، ألا وهو دفع رواتب ثمانية أشهر متأخرة للقوات المسلحة.
أقرب التصورات لأبعاد زيارة رئيس الحكومة اليمنية إلى مصر، ربطها بالاستجابات العسكرية المحتملة لمصر، إزاء التهديد الناشيء عن قيام إثيوبيا بملء سد النهضة، وما يمكن أن يترتب عليه من حرمان وشيك لها من مياه نهر النيل، قد يصل- في أسوأ الأحوال- إلى تعريض الشعب المصري للعطش، وتدمير نشاطه الزراعي الذي يقوم، أساسا، على انتظام تدفق مياه هذا النهر؛ ولذلك فإن موقع اليمن في المجال الجغرافي البحري لإثيوبيا، وحلفائها المحتملين في المنطقة، يمكِّن مصر- وفقا لترتيبات استراتيجية، سياسية وعسكرية- من تحقيق بدائل وميزات عسكرية في حال خرج خلافها مع إثيوبيا من إطاره السياسي إلى العسكري. فضلا عن ما يلعبه هذا الترتيب من دور في قمع أي تحركات عدائية بحرية محتملة لتركيا في البحر الأحمر وخليج عدن، أو حرمانها من فرص أخرى، في حال تدخلت مصر في ليبيا عسكريا، وتطور ذلك إلى صراع استراتيجي بين مصر وتركيا، شمالي وجنوبي قناة السويس.
دور وحدود موقع اليمن البحري في الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي لمصر
بالنظر إلى الموقع الاستراتيجي لليمن على البحر الأحمر، وخليج عدن، وامتلاكها الكثير من الجزر فيهما، لا سيما جزيرة ميون (بريم) الواقعة على عتبة باب المندب؛ وأرخبيل حنيش، شمالا؛ فإن ذلك يجعل من أي وجود عسكري مصري في هذه الجزر عامل دعم استراتيجي عسكري إضافي، في الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي، الذي تضطلع بتأمينه قاعدة "برنيس" العسكرية بمحافظة البحر الأحمر، الواقعة بالقرب من الحدود الجنوبية الشرقية مع السودان، والتي افتتحها الرئيس عبد الفتاح السيسي في كانون الثاين/ يناير 2020.
قبل خمسة أيام من زيارة رئيس الحكومة اليمنية إلى مصر، كان هنالك تداولا إعلاميا بشأن وجود نشاط عسكري "إماراتي- مصري"، في جزيرة ميون (بريم)، وأن عملية إعادة انتشار لقوات يمنية جرت في الجزيرة، بإحلال قوات تابعة لما يسمَّى "المقاومة الوطنية"، التي يقودها العميد طارق محمد عبد الله صالح، محل ميليشيات تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي (الانفصالي).
على افتراض تحقق رواية بشأن النشاط المصري في هذه الجزيرة، أو البحر الإقليمي اليمني؛ فإن من غير المعقول قيام مصر بذلك دون موافقة سابقة من الحكومة اليمنية، على أن يجري ترتيب ذلك، رسميا، فيما بعد، وهو ما حققته زيارة رئيس الحكومة إلى القاهرة. ومهما كانت مصر مشاركة، بحريا، في التحالف العربي، وتنشط سفنها الحربية قبالة السواحل اليمنية في البحر الأحمر، إلا أن ذلك لا يسمح لها بتجاوز حدود هذه المهمة، فضلا عن أن من دأب السياسة المصرية- إلى حد كبير- الحرص على قانونية أي نشاط من هذا القبيل.
في سياقات ماضوية شبيهة، كان لمصر تجربة عسكرية ناجحة ومثمرة جنوبي البحر الأحمر، بالتعاون مع حكومتي شطري اليمن (الشمالي والجنوبي)، إبان الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973؛ وذلك عندما رابطت مدمرتان مصريتان قرب جزيرة ميون (بريم)، بقصد حرمان السفن الإسرائيلية من المرور عبر مضيق باب المندب، وقد كان لهذا العمل عظيم الأثر في دعم الموقف المصري خلال هذه الحرب.
على افتراض السماح لمصر بإعادة التجربة، في حال نشوب حرب مع إثيوبيا، على أي نمط كانت هذه الحرب؛ أو مع تركيا في البحر الأبيض المتوسط، أو حلفائها في ليبيا؛ فإنه يمكن أن تمتد ساحتها إلى البحر الأحمر، الأمر الذي يضع مجال اليمن البحري رهن الاستفادة العسكرية لمصر. وبطبيعة الحال، فإن ذلك يعني دخول اليمن كطرف في الحرب، بما يلزمها القيام بما هو أبعد من ذلك؛ إلا أن بقاء قطاع طويل من الساحل الغربي لليمن، تحت سيطرة جماعة الحوثي، سيؤثر في كفاية الامتيازات الممنوحة لمصر من قبل الحكومة الشرعية، لا سيما إذا ما حاولت هذه الجماعة استغلال ذلك سياسيا، من خلال ربط علاقات تعاون متبادلة- بأي طريقة كانت- مع تركيا أو إثيوبيا. ولعل مؤشر ذلك بات واضحا في قطاع من خطابها الإعلامي إزاء هذين البلدين.
مهما بلغت قوة مصر البحرية، التي تعد الأولى بين الدول العربية في حوض البحر الأحمر، إلا أنها لا يمكنها الاستغناء عن دور المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، سواء في ظروف الحرب أم السلم، لا سيما إذا ما تعلق ذلك بأمن وسلامة الملاحة في قناة السويس، التي تزداد أهميتها في الحروب الدولية والإقليمية، التي تكون مصر طرفا فيها.
وهذا ما يدفع إلى القول بأن ترتيبات بحرية استراتيجية، بين اليمن ومصر، قد تشهد توسعا أكثر، إذا ما تحول البحر الأحمر إلى مسرح صراع خشن. ولن يكون ذلك- بطبيعة الحال- بمعزل عن قطبي تحالف "دعم الشرعية في اليمن" (السعودية والإمارات)، اللذين يمتعتان بقدر كبير من التأثير في جانب الحكومة الشرعية، والميليشيات المسلحة التي تسيطر على المناطق الساحلية المشاطئة لخليج عدن، وجنوبي البحر الأحمر.