أضحت مدينة تعز التي كانت عاصمة الثقافة اليمنية، مقسمة بين سيطرة الحوثيين والحكومة؛ بحيث أن الرحلة التي كانت تستغرق خمس دقائق فقط باتت الآن تستغرق خمس ساعات في صراع يُطلق عليه غالبًا "الحرب المنسية"، تشعر مدينة تعز اليمنية بأنها الأكثر نسيانًا على الإطلاق.
لدى جلوسنا في مكان على بعد خطوات قليلة من شارع مزدحم بالدراجات النارية ورنين أجراس الدراجات, وعلى بعد بضعة متاجر، يشرب الشبان أكواب الشاي الساخن في أيديهم أثناء ما يحدقون للمارة. وأعلى الشارع، تنتصب لوحة إعلانية عن كتب من مطبعة جامعة كامبريدج و McGraw-Hill.
عُرفت تعـز، ثالث أكبر مدينة في اليمن بأنها عاصمة الثقافة. ولطالما افتخر التعزيون بإنتاج مدينتهم أفضل الأشخاص تعليماً الذين أصبحوا أفضل المعلمين والمحامين والطيارين، إلى آخر ذلك. أما اليوم فصارت المدينة تُعرف بأنها أطول ساحة قتال في اليمن، وأكثر المحافظات دموية في حرب اليمن المدمرة.
إن الاهتمام بمحنة تعز قد طغى عليه القلق بشأن مصير ساحات المعارك الأكثر إستراتيجية، بما في ذلك مدينة الحديدة المطلة على البحر الأحمر. حيث توصل آخر جهد كبير لدفع اليمن بعيدًا عن الحرب في ديسمبر 2018، في مفاوضات بوساطة الأمم المتحدة في ستوكهولم، إلى "تفاهم" فقط حول الحاجة إلى التحدث عن تعز. لكن الاتفاق لم يذهب أبعد من ذلك.
وإضافة تعز إلى قائمة الأولويات الطويلة في اليمن جعلت الأمر أكثر صعوبة ـ بحسب ما يقوله بيتر ساليسبري من مجموعة الأزمات الدولية.. مضيفاً "حالياً يرتبط مصير تعز بصورة أكبر بكثير في لعبة شطرنج ثلاثية الأبعاد".
في الأسابيع الأخيرة، وعقب واحدة من أكثر الفترات هدوءًا في هذه الحرب، كان هناك تصاعد في القتال على خطوط المواجهة الرئيسية في جميع أنحاء اليمن.
تعز مدينة مقسمة إلى جزئين، في دلالة مُشؤومة للصراع الأوسع الذي يمزق دولة بأكملها. فمن قمة جبل صبر، الجبل الشاهق في المدينة، داخل القشرة المجوفة المكسوة بما كان يومًا ما منتجعًا سياحيًا ذا قيمة، هناك منظر رائع. حيث أن المنظر الذي لطالما جذب الزوار ذات مرة، يوفر اليوم أفضل نقطة لفهم تضاريس تعز السياسية.
خط الجبهة يخترق المدينة من الشرق إلى الغرب، تاركاً ندبة خضراء وبنية ظاهرة. انتشرت الخضرة مثل المخالب عبر الأرض الخالية من البشر. ما وراء هذا الخط، حوالي ثلث تعز لازال في أيدي الحوثيين الذين يسيطرون على المرتفعات المطلة على الحافة الشمالية للمدينة، فيما يخضع الباقي لإدارة الحكومة. وكلما اقتربت أكثر، ينكشف تماس يتصاعد مع التوتر.
بعد الحصول على إذن من رئيس لجنة الحي في الجانب الحكومي، الذي يعرف أعضاؤه أنفسهم بأنهم "المقاومة"، ننزل خطوات متعرجة، تحمينا ظلال داكنة وجدران حجرية مليئة بثقوب الرصاص، باتجاه ممر مهجور إلى حد كبير.
يقول أحد مرافقينا الذي يرتديً غترة يمنية منقوشة وفوطة تقليدية، أثناء ما كنا نقوم بجولة قصيرة في الشارع المفتوح "عائلتي مختبئة في المنزل، ومن يخرج يُطلق الحوثيون عليه النار".
الأسر عالقة في مرمى نيران كلا الجانبين حيث أعطت الحرب لقبًا جديدًا لتعز وهو "مدينة القناصين".
من حيث نقف، نرى كيف تم اختطاف الحياة من المنازل التي تواجه خطوط النار. إذ تشبه واجهات المباني الوجوه الحزينة للنوافذ ذات العيون السوداء والثقوب الفاصلة.
رجل آخر يهرع من خلفنا قائلاً "هناك شارع واحد فقط يفصل بيتي عن الحوثيين"، مشيراً إلى الاتجاه الآخر وهو يلتقط أنفاسه. ويضيف "كانت عائلتي خائفة للغاية عند رحيلها من هنا".
ما وراء هذا الزقاق، تمثل الحياة اليومية معركة. حيث يسيطر الحوثيون على جميع الطرق داخل وخارج تعز، باستثناء طريق واحد.
وقفنا على ما كان ذات يوم طريقًا رئيسيًا صاخبًا يسير وسط تعز، ويربطها بالمدن الكبرى الأخرى بما في ذلك العاصمة صنعاء في الشمال. هناك عدد قليل من الماعز تشق طريقها إلى أسفل الممر, ويمر صبي صغير بسرعة فوق دراجته الهوائية.
يمكننا أن نرى الحواجز المعدنية الصدئة متضخمة والشجيرات التي تسد الطريق على مسافة قصيرة.
كان الوصول إلى الجانب الآخر من تعز يستغرق فقط خمس دقائق بالسيارة. والآن يستغرق الأمر أكثر من خمس ساعات.
سلكنا ذلك الطريق الذي يعانق الجبال بتعرجاته المخيفة، بحيث يصطدم على طول مسار ترابي من خلال أشجار النخيل العالية ويمر عبر نقاط التفتيش التي تديرها مجموعات متنافسة. لم يتم منحنا إذنًا من سلطات الحوثيين لقضاء بعض الوقت في الجانب الآخر.
كل من نلتقي به في تعز يتذكر ما حدث له كما لو كان بالأمس. يقول مروان بغضب واضح "لا أحد يهتم بنا". كنا نقف وسط أنقاض منزله، حيث مات 10 من أقاربه وهم نائمون في غارة جوية شنتها قوات التحالف بقيادة السعودية. حدث ذلك قبل خمس سنوات.
أصر مسؤول حكومي يمني كان يرافقنا على زيارة منزل دمره الحوثيون.
هنـاك، رحبت بنا مجموعة من الأطفال.فتاة صغيرة ترتدي فستانًا أحمرًا مخمليًا، ضفائر بارزة، تبدأ في الحديث عن الهجوم الذي قتل زميلتها في المنزل المجاور. سرعان ما وصلت زهرة، والدة الصبي ومعها صور بيانية من ذلك اليوم المشؤوم. أما منزلهم فلا يزال بحالة فوضى ونوافذه وجدرانه مدمرة.
تقول زهرة بمرارة "لقد باع الجميع اليمن لمصالحهم الخاصة". وأضافت "الحوثيون يعملون مع إيران، ونصف المقاومة تعمل مع السعودية، والنصف الآخر مع الإمارات العربية المتحدة". فيما يعبر عن رثاء ليس فقط حول الأطراف المتحاربة الرئيسية، ولكن أيضًا حول المناوشات بين القوات المحلية التي دربتها وسلحتها الدول العربية في التحالف.
قصة زهرة هي قصة حرب اليمن. إذ قتل ابنها الأصغر في الضربة الأولى، وقتل ابنها الأكبر بالرصاص في وقت لاحق، وفقدت ابنتها عينها فيما غُـم زوجها بالحزن.
تقول زهرة "إنهم يرون هذه المصيبة الهائلة تحدث لنا ولا أحد يفعل أي شيء".
عندما رحلنا، تبعتنا زهراء ومعها خبز يمني طازج - وهو تذكير بأنه، إذا لزم الأمر، أنه"حتى في ظل هذه الحرب التي لا ترحم لا يمكن أن تسحق شخصًا مثقفًا ولطيفًا".
المصدر: الغارديان البريطانية