عند الحديث عن تهريب البشر أو الإتجار بهم، في اليمن، تحضر بلدة "رأس العارة" الساحلية بمحافظة لحج، والمناطق المتاخمة لها، كممرات تهريب رئيسية للألاف من الافارقة الذين يتوافدون بشكل شبه يومي إلى المنطقة للعبور نحو نعيم الغربة في دول الخليج- كما يوهمهم المهربون والمتعاونون معهم.
غير أن رحلة البحث عن ذلك النعيم الموعود، غالبا ما تتحول إلى جحيم يكابده الآلاف من المهاجرين القادمين من دول القرن الأفريقي. حيث تبدأ معاناتهم منذ الوهلة الأولى لمفارقتهم تراب بلدانهم على ظهر قارب تهريب صغيرة يكتظ بالعشرات؛ ولا تنتهي عند وصولهم السواحل اليمنية، حيث تبدأ فصول أخرى أشد من المعاناة التي لا تنقطع، بمجرد أن تطئ أقدامهم السمراء الأراض اليمنية.
فهنا؛ في بلدة "رأس العارة" الساحلية النائية، والتي تبعد 150 كم غرب عدن، قد يفقد البعض من المهاجرين حياتهم، جراء ما يتعرضون له من صنوف أنواع التعذيب الوحشية والقاسية، بغرض الإبتزاز المادي من قبل المهربين، أو المتعاونيين معهم، الذين يصل الوافدون الجدد إلى أيديهم، فيزجون بهم في سجون خاصة لا يستطيعون الفكاك منها إلا بمقابل مادي، ومن لا يدفع يتعرض للتعذيب، وربما الموت!!
الآلاف في رحلة خطرة
"يُعد الطريق من الخط الساحلي اليمني الجنوبي إلى الحدود الشمالية مع المملكة العربية السعودية، محفوفا بالمخاطر على آلاف المهاجرين الذين يخوضون الرحلة". بهذه الكلمات البسيطة الموجزة، يلخص مكتب تنسيق الشئون الإنسانية في اليمن، (OCHA)، وضع المهاجرين من القرن الأفريقي عبر اليمن، في تقريره الدوري "آخر المستجدات الإنسانية"- العدد (13): للفترة من 01 نوفمبر إلى 18 ديسمبر 2019.
"يصل أكثر من 10,000 مهاجرا إلى اليمن عبر القوارب شهريا، منهم أكثر من 9,000 مهاجر أثيوبي، وأما البقية فهم لاجئون صوماليون". بحسب التقرير نفسه، والذي أكد أن العديد منهم "يتجهون شمالا عبر اليمن، متمنين العبور منها نحو الحدود للبحث عن فرص للعمل في المملكة العربية السعودية، أو دول الخليج الأخرى، وقد تستغرق الرحلة من أسبوع إلى عدة أشهر".
وأشار التقرير إلى أن هناك "ما يقدر بنحو 1,000 مهاجر يعبرون من الحدود اليمنية إلى المملكة العربية السعودية يوميا- منهم حوالي 65 في المئة من الرجال، و25 في المئة من النساء، و10 في المئة من الأطفال".
بيئة خطرة.. وتعذيب ينتهي بـ"الفدية"
وسط بيئة محفوفة بالمخاطر والتهديدات، تحاول بعض المبادرات الشبابية الحقوقية، هنا في بلدة "رأس العارة" الساحلية ومحيطها، توثيق بعض أنواع الانتهاكات الانسانية التي يتعرض لها المهاجرين الافارقة خلال رحلتهم البحرية والبرية. ونظرا لتهديدات سابقة تعرض لها ناشطون حقوقيون يعملون في هذا المجال، تمضي أعمال الرصد تلك بشكل سري جدا.
ووفقا لبعض القائمين على هذه المبادرات الشبابية، الذين تحدثوا مع مراسل "يمن شباب نت" شريطة السرية، فقد تم "توثيق 157 حالة انتهاك تعرض لها مهاجرون أفارقة خلال الشهر الماضي، فقط".
ونوهت المصادر إلى أن ذلك الرقم هو، فقط، ماتمكن الفريق من توثيقه "إذ أن هناك حالات أخرى كان من الصعب الوصول إليها"، في ظل الحفاظ على السرية التي تحيط بعمل الفريق.
وعن نوعية تلك الانتهاكات، أوضحت المصادر أنها في معظمها تركزت على "التعذيب بالحرق"، فيما وجدت حالات انتهاكات أخرى تعّرضَ فيها بعضهم إلى التهديد، أو التعذيب بـ"إطلاق الرصاص". لكن أخطر تلك الحالات هي "الإغتصابات" التي تعرضت لها بعض المهاجرات..!!
وكشفت المصادر عن استخدام المهربون لأشخاص ينتمون إلى جنسيات المهاجرين أنفسهم (أفارقة)، للقيام بهذه الأعمال "ممارسة الانتهاكات والتعذيب ضد أقرانهم". وغالبا ما تنتهي هذه العملية بإجبارهم على التواصل مع ذويهم تلفونيا (خصوصا من لديهم أقارب يعملون في السعودية أو دول خليجية)، لغرض إبتزازهم وتحويل مبالغ مالية (فدية) لإطلاق سراح ذويهم.
وتتفاوت مبالغ الفدية، التي لا تقل عن 1,000 ريال سعودي، لكنها تزيد أضعافا بحسب الحالة وقياس مدى تفاعل الأهل والأقارب مع ذويهم، خصوصا وأن تلك العصابات تستخدم أساليب متنوعة لمعرفة ذلك، أبرزها "إسماع أهاليهم أصواتهم وهم يتعرضون للتعذيب، أو يرسلون إليهم صورا عليها آثار التعذيب"..!!
وتحضر في المنطقة قصة حديثة، لم يمضِ عليها أكثر من شهرين تقريبا، لفتاة مهاجرة تعرضت للأغتصاب في منطقة متاخمة لـ"رأس العارة"، وبعد أن عرف زوجها تفجر غضبا وتمكن من الحصول على سلاح، استخدمه في قتل عدد ممن يعتقد أنهم على صلة بجريمة اغتصاب زوجته، لكنه لقي حتفه على إثر ذلك.
مواقع إنزال سرية وأحواش للتعذيب
ويشكوا ناشطون من غياب دور السلطات المحلية، وتساهلها مع تلك الأعمال الوحشية. حيث اكتفت- قبل بضعة أشهر- بتنفيذ حملة أمنية على بعض الأحواش التي تحولت إلى معتقلات لتعذيب المهاجرين (تبعد مسافة 15 كم عن الساحل)، ونجحت الحملة في إحراقها بعد اشتباكات خاضتها مع رجال العصابات المسلحين، الذين استحدثوا أحواشا جديدة في مناطق أخرى.
ووفقا لمصادر محلية، تحدثت مع "يمن شباب نت" شريطة عدم الكشف عن هويتها، كانت بلدة "الهجيمة"- تبعد 10 كم غرب رأس العارة- تعد وكرا للمهربين لإنزال المهاجرين الأفارقة، نظرا لما تمتاز به من موقع استراتيجي محاط بأشجار كثيفة لحجب الرؤية لما يحدث هناك.
وأضافت المصادر: لكن خلافات نشبت مؤخرا بين وكلاء التهريب والمتعاونين معهم على خلفية حسابات مالية، اندلعت على إثرها اشتباكات سقط فيها قتيلا وثلاثة جرحى. ليتم بعدها نقل مركز الإنزال إلى موقعين آخرين؛ الأول في بلدة "عزافة"- 20 كم غرب رأس العارة الساحلية- والأخر في بلدة "بئر عيسى"، 25 كم إلى الغرب.
وتعتبر الأخيرة- بحسب المصادر- هي الموقع المفضل أكثر بالنسبة لعصابات التهريب، حيث يتم فيها إستقبال المهاجرين الواصلين وإنزالهم بتعاون بعض شيوخ المنطقة الذين يقومون بتأمين عملية الإنزال، ومن ثم نقلهم إلى الأحواش الخاصة بهم.
ويقال إن عدد تلك الأحواش كانت تصل إلى أكثر من 100 حوش، قبل حرقها من قبل الحملة الأمنية. لكن- بحسب الناشطين- استحدثت عصابات التهريب أحواشا أخرى بديلة في مناطق جبلية أبعد قليلا، لكنها معروفة.
ويؤكد ناشطون أن عصابات التهريب تستغل المواطنيين في تلك المناطق في بناء الأكواخ والأحواش الخشبية وتمنحهم 100 ريال سعودي مقابل بناء الكوخ الخشبي الواحد. حيث يلعب عامل الفقر والحاجه دورا في تعامل بعض المواطنين، بما في ذلك التزامهم الصمت عما يدور داخل تلك الأحواش.
مآسي الجحيم في مستشفيات الإنقاذ
يستقبل مستشفى "رأس العارة" الريفي بمحافظة لحج، الحالات المرضية والمصابة من المهاجرين الأفارقة، بموجب اتفاق مع منظمة الهجرة الدولية لتقديم الخدمات الصحية الأولية لهم. أما الحالات الصعبة والمعقدة، فيتم نقلها إلى مستشفى "ابن خلدون" في لحج، حيث قامت المنظمة الدولية بالتعاقد مع بعض الأطباء لتقديم الخدمات للمهاجرين الأفارقة في جناح خاص بالمستشفى يتم عزلهم وعلاجهم فيه.
ويستقبل المستشفى العديد من الحالات يوميا. وتحفظت مصادر طبية بالمستشفى- تحدثت مع "يمن شباب نت" شريطة السرية- عن ذكر أي إحصائيات رسمية في الجانب، مكتفية بالقول إن الأعداد "تتفاوت من يوم إلى آخر"، مع التأكيد على أن "المستشفى يتعامل مع جميع الحالات التي تصله من المهاجرين الأفارقة من جانب إنساني بغض النظر عن جنسيته أو ديانته، فيما يترك للجهات الأمنية التعامل مع تلك الأمور التي تخصها، بما في ذلك أخذ الأدلة ومعاينة وفحص الجثة في حالات الوفاة".
وكشفت لـ"يمن شباب نت"، مصادر أخرى عاملة، أن المستشفى "استقبل مؤخرا سبع وفيات من المهاجرين، بعضها كان ناتجا عن السقوط من سيارة تتبع أحد المهربين". دون أي تسميات.
وتحدثت المصادر نفسها، عن حالة فتاة مهاجرة مسلمة من القرن الأفريقي أسمها "رشد"، يقال أنها سقطت من على إحدى السيارات خوفا- أو هربا- من الاغتصاب، ووجدها مواطنون على قارعة الطريق فقاموا بإسعافها إلى المستشفى لتفارق الحياة بعد نصف ساعة من وصولها، حيث كانت قد تعرضت لنزيف أثناء اسعافها لبعد المسافة. وقد تم استدعاء الأمن لتسجيل الواقعة قبل أن يتم دفنها في مقبرة المنطقة بعد الصلاة عليها في الجامع.
كما كشف عاملون صحيون عن عشرات الحالات التي استقبلها المستشفى تعرضت للتعذيب، بعضها بالحرق، وأخرى بالرصاص أثناء محاولتها الهرب من تلك الاحواش الواقعة في صحراء المنطقة الساحلية.
وتحدث أحد الأطباء عن تردد حالات لمهاجرات أفريقيات لتلقي العلاج في المستشفى، عليهن آثار التعب والإرهاق والضرب، إحداهن بعمر14 عاما، كان يأتي بهن المتعاون لمعالجتهن ثم يأخذهن معه ويعيدهن إلى الاحواش..!!
وتعرض العديد من الناشطين والمهتمين بالإنتهاكات التي تطال المهاجرين الأفارقة، في السنوات الاخيرة، لجملة من التهديدات على خلفية تغطيتهم ونقدهم للحالة المأساوية للمهاجرين، وهو الأمر الذي أضطر بعضهم إلى التوقف والإنسحاب، فيما فضل آخرون مواصلة العمل لكن بسرية تامة، والتخفي حفاظا على سلامتهم، في ظل غياب الدولة وضعف أجهزتها الأمنية في المنطقة.