من منزله المؤقت في كندا، يقول الدكتور عبد القادر الجنيد "أشاهد جيلاً بأكمله يفقد تاريخنا وتراثنا "، حيث يتذكر تجواله، ذات صباح، على امتداد جبل صبر، حيث قلعة تعز النادرة في اليمن.
في أوائل السبعينيات، كان الطبيب والناشط المتقاعد لا يزال محباً للعودة إلى اليمن وإلى منزله القديم الذي كان يطل على القلاع والمساجد القديمة.
غير أن كل ما تبقى من منزله، اليوم، بعد أن طال أمده هو الحطام، حيث تحطمت نوافذه الزجاجية متعددة الألوان.
ويقول بمرارة وكأن غصة في حلقة بأن "الكثير منه تضرر جراء الرصاص والتهور الحوثي.
ويضيف "أعاني عندما أكون وحدي، أشعر بالعجز والضيق الشديد، ولا أستطيع عمل أي شيء".
وكان الجنيد، الطبيب ورئيس بلدية تعز السابق، غادر البلاد، في صيف عام 2016 بعد إطلاق سراحه من قبضة الأسر، حيث ظل معتقلا في سجون الحوثيين لمدة 300 يوم.
وبالنسبة للدكتور الجنيد وبقية اليمنيين، تمثل مدينة تعز ما تمثله كاتدرائية نوتردام لأوروبا، أو كاتدرائية القديس بولس للبريطانيين.
حيث وبالنسبة لتشرشل - الزعيم البريطاني الشهير، كانت كنيسة القديس بولس - "قلعة الحرية البريطانية" - رمزًا للروح المعنوية البريطانية خلال الحرب الخاطفة, والحفاظ عليها يعتبر ضروريًا للمجهود الحربي آنذاك .
وبالمثل، تعد مدينة تعز جزءاً أساسيا من تراث اليمن الغني بشكل غير عادي, وتمنح الشعب اليمني المنهك بالحرب شعوراً بالهوية والصمود .
وقد وصف العالِم الإسلامي, والمستكشف ابن بطوطة، المعروف باسم "ماركو بولو العالم العربي" تعز بأنها " أحدى أجمل المدن وأكبرها في اليمن ".
وعندما أغرقت النيران كاتدرائية نوتردام، قبل قرابة شهرين من الآن, عم الحزن فرنسا بخسارة كنز قديم وبديع لطالما أُعتبر منارة للهوية الأوروبية.
سارّع المليارديرات في تمويل عملية ترميم الكاتدرائية التي بينت في العصور الوسطى, تقديراً لمكانتها كرمز لاستقرار أوروبا, وقيمها الثقافية ,وتماسكها الاجتماعي.
لكن في اليمن, وفي ظل التهديد المستمر للأسلحة الفتاكة،يظل التركيز, بالنسبة لليمنيين منصباً على الحفاظ على الحياة فقط .
يقول الجنيد:"الناس داخل اليمن مهتمون للغاية بأمنهم وفقرهم، وأصبح التراث يتذيل قائمة اهتماماتهم."
إن تقاليد البناء الفريدة، التي تتناسب مع تضاريس اليمن المعقدة، هي ما يجعل هذا البلد مميزًا. ويشمل جمالها الطبيعي جزيرة سقطرى الاستثنائية، والمعروفة أيضًا باسم" جالاباجوس المحيط الهندي" .
ويقول محمد القليصي، الذي نشأ في صنعاء القديمة "يمكنك أن تجد مثل هذه الهندسة المعمارية المتنوعة. وإذا ما سافرت إلى حضرموت، فسترى شيئًا مختلفًا تمامًا عن صنعاء.
لكنه يشعر أن تراث البلاد الغني لا يحظى باهتمام كافٍ من بقية العالم ..متسائلاً:" لا نرى رد فعل عندما يقتل 100 شخص في اليمن، فلماذا إذن نتوقع منهم ردود أفعال بخصوص تراثنا؟".
ويبلغ عمر المدينة القديمة المدرجة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، بمسجدها الكبير ومنازلها المبنية من الطوب ' اللِبْن'"ونوافذها الزجاجية الملونة والأسواق والحمامات - حوالي 2500 عام حيث تعتبر من بين أقدم المدن المأهولة بالسكان في العالم.
ويقول القليصي، وهو الآن طالب في الجامعة البريطانية في القاهرة، إن نشأته بصنعاء القديمة كانت تشبه تواجده في متحف حي حيث "يواصل الناس ارتداء نفس الملابس وممارسة التقاليد القديمة والتحدث باللغة الكلاسيكية".
لكن العديد من الأحياء في المدينة دمرها الصراع، ولم يتبق سوى الأنقاض كما هو حال الأبراج القديمة المبنية من الطوب.
في جميع أنحاء البلاد، تعرضت المواقع والمتاحف التاريخية لأضرار، أو دمرت من قبل الأطراف المتحاربة.
كما دمرت الغارات الجوية بقيادة السعودية منازل الطين التاريخية في صعدة، مسقط رأس الحوثيين.
وتعرض سد مأرب العظيم الذي يقدر عمره ب 2800 عام لأضرارً جراء صواريخ التحالف في عام 2015، وفقًا لمنظمة اليونسكو.
في تعز، أصبحت قلعة القاهرة التي بنيت في القرن الثاني عشر، وتقع فوق قمة جبل صبر، هدفًا رئيسيًا بعد أن اتخذ منها الحوثيون قاعدة عسكرية إستراتيجية.
وأعيد فتح القلعة في عام 2018، لكن دعاة الحفاظ على البيئة يحذرون من خطر انهيار وشيك للقلعة, بعد ثلاث سنوات من القصف.
ويقول ماركو ليفاديوتي، المهندس المعماري الإيطالي الذي كان والده طبيبًا شخصيًا لآخر ملوك اليمن، الإمام أحمد بن يحيى "يمكنك إعادة بناء قصر أو قلعة أو متحف أو مجموعة من المنازل - لكن لا يمكنك ترميـم المشهد الثقافي بأكمله".
في حين تتطلع آنا باوليني، ممثلة اليونسكو في دول الخليج العربية واليمن, إلى إعادة البناء ، حيث تعتقد أن العمل لا يمكن أن يبدأ إلا بعد انتهاء الصراع.
وتضيف:"كيف ومتى سيتم الترميم, مسألة تعتمد على مشاركة المجتمع المحلي - والتزام [المجتمع الدولي] بالمساعدة".
وعلى الرغم من ذلك، من المرجح أن يؤدي التفاوض على تمويل عمليات الترميم إلى إثارة نقاش مزعـج حول مسؤولية الغرب عن دعم الحرب.
ويظل الحجم الدقيق للأضرار التي لحقت بالمواقع التأريخية غير معروف، لكن أخصائيون تاريخيون يقدرون أن الرقم أكبر من 60 موقعاً.
ويقول القليصي: "تلقت كاتدرائية نوتردام مليار دولار أمريكي في يوم واحد، و أعتقد أننا سنحتاج إلى 10 سنوات أو أكثر لنحصل على نفس المبلغ ".
وتابع "اليمنيون وحدهم ...هم الذين يمكنهم إعادة بناء اليمن".
وتقول الصحيفة بأنه" وحتى لو توفرت الأموال، فإن إعادة الإعمار بعد الحرب، لا تتم دائماً بعناية .
ووفقا للمعماري الايطالي ليفادوتي:"كانت عمليات إعادة البناء التي نفذت في المائة عام الماضية تخريبية وتم تنفيذها بسرعة لمحو الماضي وإعادة البناء.لقد كانت مجرد عمل تربحي خالص".
وفي غياب قواعد ولوائح صارمة حول البناء، تحذر باوليني المسؤلين من إعادة البناء من استخدام مواد رخيصة وغير مناسبة.
لكن وعلى الرغم من أنه غياب أيما نهاية للصراع المدمر ..قد تلوح في الأفق، إلا أن الأمل في أن المعرفة المتخصصة بتقنيات البناء لم تغادر البلاد لغاية الآن.
وتقول باوليني: "لا تزال المعرفة التقليدية للبناء الرئيسي [أُسْطه] (مصطلح عامي يطلق على الماهر في مهنته) موجودة هنا".
لا يمضي يوم واحد من دون أن يفكر الدكتور عبدالقادر الجنيد بجمال تعز.
حيث يقول:" حلمي أن أعود إلى الوطن. أريد أن أجد طريقة لمساعدة شعبي، وأنا على استعداد للقيام بذلك حتى لو كلفني ذلك حياتي. "
المصدر: الاندبندنت البريطانية