للحصول على لترات من الماء يصطف عشرات الأهالي كل صباح في طوابير طويلة في مختلف أحياء مدينة تعز (جنوبي غرب اليمن)، التي شهدت مؤخرا أزمة مياه حادة في ظل استمرار الحصار الذي تفرضه ميليشيات الحوثي على المدينة منذ أربع سنوات.
ويشكوا معظم السكان في مدينة تعز من ارتفاع أسعار صهاريج المياه الخاصة بالاستخدام المنزلي، ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة، ولا معقولة، يعجز معظم الناس عن توفيرها، لاسيما في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، نتيجة الحرب المستمرة منذ أربع سنوات.
وقال جمال الشرعبي لـ"يمن شباب نت"، وهو موظف تربوي متوقف راتبه منذ أشهر، إنه يضطر يوميا إلى الذهاب إلى مسجد الحي للحصول على جالوني ماء، سعة الواحد منها عشرون لترا، لعدم قدرته على شراء صهريج مياه للاستخدام المنزلي، بعد أن وصل سعر الواحد منها- سعة ثلاثة آلاف لتر- إلى خمسة عشر ألف ريال (حوالي 30 دولار). أي بزيادة وصلت إلى ثلاثة أضعاف سعره السابق، الذي لم يكن يتجاوز خمسة آلاف ريال فقط (حوالي 10 دولار).
أزمة حادة
على هذا النحو، ومنذ شهر ونصف تقريبا، أصبح حال النسبة العظمى من أبناء مدينة تعز، التي يعيش فيها أكثر من 500 ألف نسمة. في حين تواصل ميليشيات الحوثي فرض حصارها على المدينة من ثلاثة منافذ رئيسية، بينها المنفذ الشرقي الذي يكتنز معظم الآبار الجوفية الرئيسة للمدينة.
وهناك، في بداية الريف الجنوبي الغربي للمحافظة- على بعد كيلو مترات من مركز المدينة، حيث المنفذ الوحيد المتبقي لها- تربض يوميا عشرات الشاحنات المحملة بصهاريج المياه التجارية الفارغة، منتظرة دورها أمام عدد من الآبار الجوفية التي ما زالت تزخر بها منطقة وادي "الضباب" الريفية، وقد أصبحت- هذه الأيام بشكل خاص- وجهة معظم تجار المياه بعد أن جفت عدد من آبار المدينة التي كانت تخفف من حدة الأزمة.
ويبرر أسامة فرحان، وهو مالك صهريج مياه تجاري، سبب اضطرارهم لرفع أسعار بيع صهاريج المياه، قائلا: "كنت في السابق أقوم بتعبئة صهريجي، سعة ثلاثة آلاف لتر، في عشرين دقيقة فقط، لذلك كنت أبيع في اليوم الواحد ما لا يقل عن خمسة صهاريج بالراحة"
وأضاف لـ"يمن شباب نت": "أما اليوم، بسبب الأزمة والازدحام، أصبحت أنتظر أكثر من سبع ساعات هنا في منطقة الضباب حتى أحصل على دوري"، مستدركا "والمحظوظ منا، هذه الأيام، هو من يحصل على دفعتين لبيعهما في اليوم".
"القات".. السبب الأول
ويعرب أهالي منطقة "وادي الضباب" عن مخاوفهم من أن تؤدي هذه الأزمة الحادة إلى استنزاف مياه الوادي الذي يعتمدون عليه بدرجة رئيسية في ري مزارعهم.
وأرجع عدد من مالكي الآبار في الوادي، أحد الأسباب الرئيسة في أزمة المياه هذه، إلى التوسع المشهود مؤخرا في جغرافية زراعة القات في المناطق الريفية القريبة والمجاورة لوادي الضباب الغني بالمياه الجوفية.
وأكد المواطن علي البريهي لـ"يمن شباب نت" أن عدد من المزارعين في المناطق المجاورة لوادي الضباب، وخصوصا مناطق "بن خولان" و "الكلايبة" و"البيرين"، تحولوا إلى زراعة القات، ونتيجة تأخر موسم الأمطار، أقبلوا بكثافة على شراء المياه من وادي الضباب لسقاية مزارعهم من الجفاف.
وهو ما أكده أيضا، مدير عام المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي المهندس بدري الإبي، الذي أشار في حديثه مع "يمن شباب نت" إلى أن "اكتساح زراعة القات مناطق ريف جنوب- غرب المدينة على نطاق واسع، أدى إلى شراء صهاريج المياه بأسعار غالية وباهضة لري مزارع القات، ما زاد من استنزاف المياه ورفع أسعارها في المدينة، لاسيما مع تأخر موسم الأمطار وتدني منسوب المياه".
وتفاقمت الأزمة أكثر، مع تهافت الناس على شراء المياه بكميات كبيرة، خشية صعوبة الحصول عليها أو إنعدامها كليا، بفعل ما تعمله الشائعات في هذا الجانب. الأمر الذي "جعل مالكي الصهاريج يستغلون هذه الحالة، ويبالغون في الأسعار، مع أن تكلف الصهريج الواحد ربما لا تصل إلى أربعة آلاف ريال، إلا أنهم يتحججون بمبررات غير منطقية" كما يقول مدير عام المؤسسة.
الحوثيون.. سبب آخر مهم
وإلى جانب ما سبق، أورد مدير مؤسسة المياه في المدينة، في حدثه لـ"يمن شباب نت"، أسبابا أخرى ساهمت في زيادة حدة هذه الأزمة، على رأسها "توقف جماعة الحوثي عن تشغيل وضخ المياه من آبار المؤسسة الخاضعة لسيطرتها خارج المدينة، بداية من منطقة حبير شرقا، حتى سد العامرة شمالا".
وأوضح الإبي: "هناك ما يزيد عن أربعين بئرا رئيسا تحت سيطرة الحوثيين، لو أنها شُغلت بطاقتها الكاملة لحدّت كثيرا من الأزمة القائمة". وأضاف: "هنا في المدينة، لا يوجد تحت يد وإدارة المؤسسة سوى عشرون بئرا صغيرة إسعافيه، بعضها نضبت نتيجة تكثيف العمل عليها ما أدى إلى استنزافها مؤخرا، فيما كانت بعضها قد تضررت بفعل الحرب الدائرة منذ أربع سنوات، وتوقف عدد منها بشكل نهائي، وأخرى بحاجة إلى صيانة وإعادة تأهيل".
وتشير الاحصائيات التي قدمها مدير المؤسسة لموقع "يمن شباب نت" إلى أن مدينة تعز- بمديرياتها الثلاث فقط- تحتاج يومياً إلى 35 ألف متر مكعب من المياه، بينما أن القدرة الإنتاجية للمؤسسة من الآبار التي في المدينة تتراوح، في الوقت الراهن، من ثلاثة إلى أربعة آلاف متر مكعب فقط.
"أما في حال شُغلت جميع آبار المؤسسة داخل وخارج المدينة"، يقول، "لحصلنا في اليوم الواحد على كمية تتراوح من 16 إلى 18 ألف متر مكعب".
وتشكو السلطة المحلية بتعز من تخاذل المنظمات الدولية المعنية وتقاعسها في التخفيف من حدة المعاناة الإنسانية، في الوقت الذي نشهد فيه تعاونا واضحا مع جماعة الحوثي في هذا الجانب.
وفي رده على سؤال "يمن شباب نت" حول تلك الاتهامات، أشار مدير مؤسسة المياه إلى أن هناك عدد من الآبار داخل المدينة معطلة ومتوقفة عن العمل لعدم وجود النفقات التشغيلية، حيث توقفت المنظمات الدولية عن دورها بالإسهام في الصيانة وتشغيل تلك الآبار.
وأضاف "كُنا قد وُعدنا بمساعدات لتشغيل بعض الآبار من قبل بعض المنظمات، الا أنهم تأخروا في إجراءاتهم وعدم صرف هذه المخصصات، خاصة وأنها مرصودة من قبل منظمة اليونيسف". وتعتبر الأخيرة هي المعنية بتقديم الدعم المالي لتشغيل مؤسسات المياه في عدد من محافظات الجمهورية، بضمنها تعز التي تسلم مخصصاتها لسلطات الحوثيين.
إجراءات وحلول
وأدت الأزمة الحالية في تعز إلى إثارة الانتقادات الشعبية، عبر صفحات التواصل الاجتماعي، ضد السلطة المحلية لتقاعسها في إيجاد حلول سريعة وعاجلة.
لكن مدير عام مؤسسة المياه، الأبي، نفى لـ"يمن شباب نت" وجود أي تقاعس، سواء من جهة المؤسسة أم من جهة السلطات المحلية ككل، مؤكدا أن محافظ المحافظة نبيل شمسان مهتم بنفسه بحل هذه الأزمة، من خلال تواصله المستمر مع المسئولين والمعنيين لإيجاد حلول سريعة وعاجلة.
وأوضح أن المؤسسة، ومنذ بداية ظهور الأزمة، عقدت لقاءات مع مسئولي السلطة المحلية بشكل شبه يومي خلال الأيام القليلة الماضية لتدارس الأزمة، وخرجت بخطة حلول طارئة.
وتشمل الخطة- كما أوضح الأبي لـ"يمن شباب نت": تشغيل كافة آبار المؤسسة، والتخاطب مع المنظمات الدولية الداعمة بضرورة التعاون والاسهام في الدعم للتخفيف من حدة المعاناة.
كما أكد على أن مؤسسته، شرعت بالنزول الميداني، وفقا للخطة، وبدأت بتشغيل بعض الآبار المعطلة، بينها: آبار مزرعة الصفراء، ووادي القاضي، وبئر الدرة بوادي المدام، وبئر الجشاش، وبئر عمد، إلى جانب اصلاح الخط الرئيسي الذي تعّرَض للتدمير من قبل مليشيات الحوثي في منطقة الدُحي، وبدأت بضخ المياه إلى خزانات حي المناخ.
ولفت إلى أنهم نزلوا أيضا إلى حقل المياه الغربي الذي كانت تعتمد عليه عددا من أحياء المدينة لكنه أصبح شبه مدمر، بسبب الحرب، مشيرا "وحاولنا تشغيل بعض آبار هناك، الا أننا لم نتكمن نظراً لتواجد قناصة الحوثيين ومخاطر أخرى لازالت تهددنا".
ومن ضمن الإجراءات التي ذكرها "تشغيل كافة آبار المساجد الوقفية، ومنع خروج مالكي الصهاريج من نقاط الضباب الى خارج حدود المدينة الجنوبية الغربية لغرض سقي القات".
إشكالية تحديد الأسعار
وإلى جانب ذلك، يؤكد مدير مؤسسة المياه على أن مكتب الصناعة والتجارة، وبالاشتراك مع مكتب النقل في محافظة تعز، اتفقا على تحديد قائمة بأسعار بيع صهاريج المياه للمواطنين، للحد من التلاعب والتخفيف من معاناة السكان.
وتحدد وثيقة الأسعار المتفق عليها تكاليف التعبئة وأجور النقل، وبالتالي أسعار البيع للمواطنين، وفقا لسعة الصهريج، وذلك على النحو التالي: -
- سعة ثلاثة ألف لتر: 1000 ريال تكلفة التعبئة + 3000 ريال أجور نقل= 4000 ريال- هو سعر البيع للمواطن.
- سعة 5500 لتر: 2000 ريال/ تعبئة + 5000 ريال/ أجور نقل= 7000 ريال- هو سعر البيع للمواطن.
سعة 11 ألف لتر: 4000 ريال/ تعبئة + 10000 ريال/ أجور نقل = 140000 ريال- هو سعر البيع للمواطن.
ومع ذلك، ما تزال هذه التسعيرة غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، من جهة مالكي شاحنات بيع المياه، كونها في نظرهم- حسب استطلاع سريع أجراه "يمن شباب نت" مع عدد منهم- غير واقعية وتفتقد للمنطق وأبسط الحقائق على أرض الواقع.
فهي، عوضا عن أن الأرقام الواردة فيها غير دقيقة، كما يقولون، فإنها مع ذلك لم تحدد سوى إجمالي التكلفة (الخسائر) واعتبرتها سعر البيع، متجاهلة إضافة أية أرباح للمالكين، ولم تأخذ بعين الاعتبار تأثرهم من الأزمة.
وقال أحد المستطلعين لـ"يمن شباب نت": أنا مثلا أعمل سائقا لدى مالك هذه الشاحنة، لقاء حصولي على خمسة آلاف ريال في اليوم الواحد. وكنت في السابق أبيع ما لا يقل عن خمسة صهاريج يوميا، لكن اليوم، مع هذه الأزمة، لا يمكنني الحصول سوى على صهريج واحد أو أثنين بالكثير لبيعهما..!! متسائلا: وبالتسعيرة التي ذكرتها لن يحصل المالك على أية أرباح، فمن أين سأحصل أنا على أجري؟!
ويضيف آخر: أضف إلى ذلك، أن تكلفة النقل المحددة في التسعيرة غير صحيحة، فعلى سبيل المثال، تستهلك شاحنتي (5500 لتر)، ذهابا إلى وادي الضباب، والعودة إلى حي مستشفى الثورة، مثلا، دبة ديزل كاملة، أي ثمانية آلاف ريال. في حين تحدد التسعيرة خمسة آلاف ريال كأجور نقل..!!
وأكد أحد السائقين لـ"يمن شباب نت": لن تحل أزمة ارتفاع الأسعار، بهذه الطريقة العشوائية. والحل الوحيد بالنسبة لنا، هو انتهاء الزحام أمام آبار المياه، بحيث نستطيع تعبئة ما لا يقل عن خمسة صهاريج يوميا لبيعها. مالم فسيفضل مالكو الشاحنات إيقافها تجنبا للخسارة. الأمر الذي سيزيد أكثر من مفاقمة الأزمة.