خلال السنوات الأربع الماضية، تقريبا، لم يكن اليمن حاضرا في أولويات السياسة التركية، إلا من لعب دور اغاثي محدود، بين الحين والأخر. ومؤخرا، بدى وكأن البلاد، التي عانت من حرب طاحنة إثر انقلاب ميليشيات الحوثي المدعومة من إيران على السلطة الشرعية منذ سبتمبر/ أيلول 2014، بدأ يتسلل إلى دائرة الاهتمام في أولويات أنقرة.
ففي خطوة هي الأولى من نوعها منذ انقلاب الحوثيين، وصل نائب وزير الداخلية التركي إسماعيل جكتلا، الاثنين 14 يناير/ كانون ثاني الجاري، إلى العاصمة المؤقتة عدن الواقعة تحت الهيمنة الإماراتية، في أول زيارة رسمية يقوم بها مسئول تركي رفيع، التقى خلالها برئيس الحكومة الشرعية معين عبد الملك، ونائبه وزير الداخلية اليمني أحمد الميسري، مجددا دعم ومساندة تركيا للسلطة الشرعية.
ومع أن الزيارة تأتي بعد نحو ثلاثة أسابيع من احتجاز فريق اغاثي تركي وطاقم من قناة "تي آر تي" التركية من قبل قوات انفصالية تابعة للإمارات في عدن (جنوبي اليمن)، إلا أنها أثارت تساؤلات حول طبيعتها وأهدافها، وما إذا كانت تحمل أبعادا سياسية، تؤشر على إمكانية عودة الاهتمام التركي باليمن، بعد انكفاء أنقرة طوال الفترة الماضية من الحرب، على تقديم دعم محدود في الجانب الإنساني، وعبر هيئات اغاثية تركية.
أبعاد سياسية وأمنية
في الواقع، الجانب الإغاثي كان حاضرا بالتأكيد. لكن، ليس كمجرد واجب إنساني ملحق بأجندات دبلوماسية جيوسياسية، بل قدم باعتباره جزء من توجيهات عليا من أعلى المستويات: تحدث نائب وزير الداخلية التركي سماعيل جكتلا عن توجيهات مباشرة من الرئيس رجب طيب أردوغان بتواجد فريق تركي في اليمن لدراسة الاحتياجات، التي تتطلب تدخلاً إغاثياً وإنسانياً سريعاً.
ومع ذلك، فالزيارة لم تتوقف عند مناقشة جهود الإغاثة التركية للتخفيف من معاناة اليمنيين جراء استمرار الحرب الانقلابية، بل تجاوزت ذلك، لتأخذ أبعادا سياسية وأمنية بالفعل. فالمسئول الأمني التركي، ركز خلال لقائه برئيس الوزراء اليمني، على تأكيد دعم بلاده للسلطة الشرعية وسيادة الدولة اليمنية.
ويأخذ هذا التأكيد، أبعاده السياسية والأمنية على نحو بالغ الأهمية، في مثل هذا التوقيت بالذات، من حيث أن الجميع، ربما بدون استثناء، يدرك اليوم أن شرعية البلاد وسيادتها، تعرضتا للإضعاف بشكل مبالغ فيه من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تمنع الرئيس هادي من العودة إلى العاصمة المؤقتة عدن، كما تعيق تفعيل دور السلطة الشرعية وحكومتها بكل قوامها ومسؤوليها، انطلاقاً من العاصمة المؤقتة بصورة دائمة، ولا تزال مستمرة في دعمها لمليشيات مسلحة انفصالية، حولت عدن إلى ساحة عبث، جعلت منها بيئة غير قابلة للحياة الرسمية.
بالإضافة إلى ذلك، فقد جرى خلال لقاء نائب وزير الداخلية التركي مع وزير الداخلية اليمني، بحث قضايا أمنية، وسبل الدعم والتعاون المشترك بين تركيا واليمن في المجال الأمني "والتأهيل والتدريب والتجهيز وتفعيل اللجنة المشتركة". حسب ما ذكرته وكالة الأنباء اليمنية (سبأ)، الناطقة باسم الحكومة الشرعية.
قلق إماراتي
إزاء ذلك، كان من الطبيعي أن يعتمر القلق دولة الإمارات، التي تتخذ من تركيا عدوا واضحا لها في المنطقة، ربما أكثر من عدائها لإيران، التي لطالما أكدت الإمارات أنها تخصص جزء كبيرا من إمكانياتها المالية والعسكرية والدبلوماسية لمواجهة توسعها وتغولها في الإقليم بغية تقويض مصالحها ودول الخليج بشكل خاص.
وبالنيابة عنها، على ما يبدو، فقد ذهبت وسائل إعلام ممولة إماراتيا، إلى التعبير عن القلق من ترحيب الحكومة اليمنية بمزيد من التنسيق مع الجانب التركي في مجالات الأمن والعمل الإنساني.
وقد أثارت زيارة المسؤول التركي إلى اليمن، في مجملها، حفيظة الأوساط الإعلامية الإماراتية والمدعومة من أبو ظبي. إذ بدت منزعجة وقلقة من التحركات التركية واتصالاتها بالحكومة اليمنية الشرعية، وتأكيدها على دعم سلطة الرئيس هادي، التي لم تدخر الإمارات جهدا في استهدافها وإضعافها، لدرجة أن وصل بها الأمر إلى مستوى التصعيد العسكري ضد القوات الموالية للشرعية في عدن. كما جرى في يناير 2018، عند قيام القوات المدعومة من الإمارات بشن هجوم واسع على معسكرات الشرعية، ووصلت إلى محيط قصر معاشيق، حيث كان يتواجد بداخله رئيس الحكومة (السابق) أحمد عبيد بن دغر، آنذاك.
ولعل ما قد يثير مخاوف أبوظبي أكثر، من إمكانية نجاح تركيا في تولي دورا سياسيا وأمنيا في اليمن، هو أن توقيت زيارة المسئول التركي، لا تأتي فقط في ظل انكشاف الإمارات وبلوغ الغضب الشعبي ذروته من استمرارها في محاولاتها المحمومة لإضعاف السلطة الشرعية لتحقيق مصالحها الجيواستراتيجية، بل لكونها جاءت تزامنا مع حاجة الشرعية والرئيس هادي لدعم إقليمي ودولي مؤثر، يساهم في إعادة الاعتبار لمظاهر وأشكال الشرعية السيادية وتعزيز دورها وفرصها، في مواجهة سياسة الإضعاف التي تتعرض لها من قبل الفاعل الأكبر بعد السعودية في إطار التحالف العربي، دون رادع إقليمي أو دولي. الأمر الذي قد يجعل من التدخل التركي بمثابة طوق النجاة للتشبث به بقوة.
وفي هذا السياق، ربما جاء تثمين رئيس الحكومة الشرعية، معين عبد الملك، وإشادته بـ"دعم جهود الحكومة التركية، وما تقدمه من دعم لليمن على مختلف الأصعدة"، بما في ذلك الإشارة إلى "حجم الدعم التركي لليمن في مختلف المجالات الإغاثية والإنسانية". علاوة على إشادة وزير الداخلية اليمني أحمد الميسري بدور تركيا، الذي وصفه بأنه "محوري، في دعمها للشرعية اليمنية والرئيس هادي ومساندتها لليمنيين".
مجرد مناورة أم مؤشر لتحرك جيو-استراتيجي
وبعيدا عن الموقف الحقيقي للجانب اليمني، الذي لا يستبعد كثيرا خروجه عن تأثيرات الفاعلين الرئيسيين الحاليين في التدخل، أو حتى ما يمكن أن تكون مناورات للمسئولين من وكلاء أبوظبي المحليين في اليمن، إلا أن التساؤل الأهم يبقى قائما بشأن معرفة: ما إذا كانت زيارة نائب وزير الداخلية التركي إلى العاصمة المؤقتة عدن، تعكس أهمية اليمن بالنسبة لمصالح أنقرة الجيو-استراتيجية، وإمكانية أن تكون الزيارة مؤشرا حقيقيا على نية تركيا للعب دور إقليمي مؤثر في اليمن؟!
وتعليقا على ذلك، قال مصدر دبلوماسي يمني خارج البلاد، لـ"يمن شباب نت": إن مسألة التوازن في الذهنية السياسية التركية حاضرة في المنطقة. لاسيما أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن وبحر العرب. حيث تتواجد قوات تابعة للبحرية التركية، تقوم بمهام تهدف إلى سلامة السفن التركية. بحسب مذكرة رفعتها حكومة أنقرة إلى البرلمان التركي مؤخرا، طالبت فيها بتمديد مهمة القوات في المنطقة.
ولفت المصدر الدبلوماسي إلى أن الأتراك في السابق كانوا يتحركون في اليمن وسوريا بحذر شديد، آخذين بعين الاعتبار دور المملكة العربية السعودية وتحركها وعلاقاتها. وجراء تلك السياسة تعرضت تركيا لانتكاسة في سوريا لصالح الروس وإيران.
وأضاف: وفيما يبدو، فقد تزامن ذلك مع مخاوف لدى أنقرة من عدم امتلاك الرياض لرؤية واضحة في اليمن. خصوصا مع تصاعد سياسة الإضعاف الإماراتية للشرعية اليمنية ومؤسسات الحكومة والدولة الشرعية، وتجريد المناطق المحررة بما فيها العاصمة المؤقتة عدن، من حضور سلطات الدولة السيادية.
غير أن السنوات الأخيرة- بحسب مراقبين، شهدت تقدما للموقف التركي في المنطقة، خاصة بعد أن حصل نوع من الاستقرار السياسي الداخلي، والذي توج مؤخرا بالقضاء على محاولة الانقلاب في يوليو 2016. الأمر الذي جعل خيارات الأتراك متقدمة على أكثر من صعيد في آن واحد، وعززت من تواجدها في الضفة الأفريقية من البحر الأحمر، وتحديدا في السودان وجيبوتي، وحاليا في أثيوبيا، إلى جانب تواجدها في الصومال وخليج عدن.
عودة إلى خلفية الاهتمام التركي في اليمن
كان الدور التركي قد شهد تراجعا خلال السنوات الأربع الماضية التي تلت الانقلاب الحوثي على السلطة الشرعية في سبتمبر أيلول 2014. إذ تراجع مستوى الاهتمام باليمن في أولويات سياسة أنقرة الإقليمية، وانكفاءها نحو قضايا داخلية وإقليمية أخرى، مع الاحتفاظ بلعب دور محدود في اليمن من خلال تقديم دعم إغاثي ـ إنساني. على الرغم من الأهمية التي يتمتع بها الموقع الاستراتيجي الهام لليمن بالنسبة لمصالح تركيا، والفاعلين الإقليميين والدوليين، لاسيما في البحر الأحمر وخليج عدن.
سياسيا، اكتفت أنقرة خلال فترة ما بعد الانقلاب، بدعم الجهود السعودية ـ الخليجية، معلنة عبر بيان للخارجية التركية بعد ساعات من انطلاق عاصفة الحزم، دعمها ومساندتها للضربات العسكرية التي تقودها المملكة العربية السعودية ضد الحوثيين في اليمن، من أجل استعادة الشرعية. وبيّنت حينها تلقيها بلاغ مسبق من المملكة بإطلاق العمليات العسكرية بقيادة الرياض. كما أعربت الخارجية التركية عن ثقتها بأن "عاصفة الحزم" ستساهم في الحد من مخاطر الاقتتال الداخلي والفوضى في اليمن. وحمّلت المتمردين الحوثيين مسؤولية تدهور الوضع في اليمن، كونهم رفضوا قرار مجلس الأمن رقم (2201)، والانسحاب من المؤسسات الحكومية في العاصمة اليمنية صنعاء.
وبعد أيام من انطلاق العمليات العسكرية بقيادة السعودية في اليمن، أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تصريحات قوية داعمة للتدخل السعودي، متهما إيران بمحاولة السيطرة على المنطقة من خلال أجندة طائفية، مبديا استعداد تركيا لتقديم الدعم اللوجستي في عملية عاصفة الحزم ضد الحوثيين، وطالب إيران والمجموعات الإرهابية الانسحاب من اليمن.
وقال أردوغان، خلال مؤتمر صحفي عقب أيام من انطلاق عاصفة الحزم: "إن انقلاب الحوثيين مبني على بعد طائفي بدعم من إيران"، مشيرا إلى أن "التدخل الإيراني بات يقلق جميع دول المنطقة، من تركيا إلى السعودية ودول الخليج العربي".
وفي مايو/ آيار الماضي، أشار الباحث التركي المعروف علي باكير- في مقالة تحليلية مشتركة مع المحلل التركي وجورحيو كافييرو- إلى أن تركيا دعمت عاصفة الحزم التي تقودها السعودية لسببين رئيسيين؛ تركز أحدهما حول رفض الحوثيين لقرار مجلس الأمن رقم 2201 ورفضهم الانسحاب من مؤسسات الحكومة الشرعية، الأمر الذي يعني أنهم كانوا مسؤولين عن تدهور الأوضاع في اليمن.
والسبب الثاني: عند تولى الملك سلمان السلطة في يناير 2015، ركزت الرياض على تحسين العلاقات مع الدوحة وأنقرة لمجابهة إيران، على العكس من السنوات الأخيرة من حكم الملك عبد الله، التي حولت خلالها الرياض أولوياتها الإقليمية من التركيز فقط على إيران إلى التركيز على تحركات الإخوان المسلمين في مصر. ما تسبب في تعطيل الجهود الجماعية في المنطقة لمواجهة طهران. وفقا لما خلص إليه تحليل الباحثان التركيان.
تغيرات تركية مبررة
بيد أن الأزمة التي اندلعت بين السعودية والإمارات من جهة، ودولة قطر من جهة أخرى، قُبيل منتصف العام 2017، أثرت على الأوضاع في اليمن وانعكست على السياسات والمواقف الإقليمية إزائها، ونتج عنها تباين في الأدوار التركية تبعا لحالة التصعيد الإماراتي في مواجهة تركيا، التي يقول محللون أتراك أنها تدرك تورط الإمارات في دعم محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة على حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان في 15 يوليو 2016.
وتباعا لذلك أيضا، حدث تصدعا في العلاقة بين الرياض وأنقرة، في ضوء ما تعتقده الأخيرة انصياع القرار السعودي لأمزجة وحسابات محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي. وازداد التوتر أكثر في العلاقة بينهما إثر مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في أكتوبر 2018 داخل القنصلية السعودية بمدينة اسطنبول التركية.
ولعل ذلك، في النسق السياسي المتوالي، هو ما دفع بتركيا إلى لعب دورا دبلوماسيا لا تدين فيه إيران بشكل مباشر، وفي الوقت نفسه تخلت عن سياستها السابقة في تشجيع السعودية. بل أن وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو في ديسمبر الماضي، أنتقد ما وصفها بالسياسات الخاطئة لدول الخليج في الشأن اليمني، ووجه دعوة إلى منظمة التعاون الإسلامي لعقد اجتماع مجموعة الاتصال من أجل اليمن.
ولعل العودة التركية الأخيرة، من جهة أخرى، تعززت على إثر تحذيرات خبراء أتراك، اعتبروا أن الانقلاب الحوثي المدعوم إيرانيا، قضى على النفوذ التركي في اليمن، والقائم على استخدام أدوات ووسائل القوة الناعمة. فضلا عن أنه أضعف دورها في اليمن لصالح مشروع إيران التوسعي.
وقال أوغلو خلال اجتماع لتقييم السياسات الخارجية التركية في 2018، بالعاصمة التركية أنقرة: "أقولها بكل وضوح، إن السياسات الخاطئة لدول الخليج والخطوات الخاطئة منذ البداية، وجر تلك الخطوات الخاطئة إلى أبعاد مختلفة، أدت مع الأسف إلى وفاة عدد كبير من الأطفال والنساء، جراء الجوع والأمراض".
فأي دور يمكن أن تلعبه تركيا، على ضوء هذه المعطيات؟ وإلى أي حد تفصح الزيارة عن رغبة أنقرة للالتحاق بالأدوار المباشرة للفاعلين الإقليمين في اليمن؟
وفي حين ترتبط معرفة ذلك، على: ما إذا كان الاهتمام التركي يمنح الشرعية فرصا وأوراق قوة أمام محاولات إضعافها المستمرة من قبل الإمارات في عدن؟
فإنه أيضا يتعلق بمعرفة: إلى أي حد يمكن لأنقرة أن تلعب على مساحات الخلاف والتباين القائمة في الرؤى بين سياسة السعودية لمستقبل الوضع في اليمن من جهة، وسياسة أبو ظبي من جهة أخرى.
لاسيما وأن سفير دولة الإمارات العربية المتحدة، يوسف العتيبة، أعترف في أحد الرسائل المسربة في البريد الإلكتروني لواشنطن بأن التحالف العربي استهدف المدنيين وأن القوات الجوية السعودية هي من ارتكبت "معظم الضربات الخاطئة"، بالإضافة إلى ما ذكره الباحث السياسي التركي باكير الذي قال إن أنقرة اعترفت بأن دور أبو ظبي المتنامي، وخاصة في جنوب اليمن، يتناقض مع رؤية الرياض، ويهدد حقا الوحدة الوطنية في اليمن.
وقالت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، في فبراير الماضي، إن المعارك التي اندلعت في عدن، جنوب اليمن، بين ما يسمى بالمجلس الجنوبي الانتقالي المدعوم إماراتياً، والقوات التابعة للرئيس هادي المدعومة سعودياً، كشفت هشاشة التحالف بين قائدتي التحالف الرئيسيتين (السعودية والإمارات).
أخبار ذات صلة
الإثنين, 14 يناير, 2019
مباحثات يمنية تركية لتعزيز التعاون المشترك في المجال الأمني
الإثنين, 14 يناير, 2019
رئيس الوزراء يلتقي مسؤول أمني تركي بارز في "عدن" والأخير يكشف أسباب الزيارة
الأحد, 23 ديسمبر, 2018
إخلاء سبيل وفد إغاثي تركي احتجزته قوات مقربة من الإمارات بعدن لمدة يومين