هناك أحاديث في اليمن بأن الرئيس عبد ربه منصور هادي لا يقدر على العيش في بيئة خالية من الأزمات. بعضها يُفرض عليه بفعل تطورات سياسية أو ميدانية أو حتى اقتصادية، ويختلف تعاطيه معها بين محاولة ضبطها أو تجاهلها، أما بعضها الآخر فيصنعه بنفسه.
قرارات التعيين التي يُصدرها الرئيس اليمني تباعاً وتعمل على مضاعفة حالة الاحتقان في الشارع، تُعد المثال الأبرز على ذلك. على الرغم من حالة الحرب التي تعيشها البلاد منذ أكثر من ثلاث سنوات، ووجود الجزء الأكبر من المسؤولين خارج البلاد، وكارثة انهيار العملة المحلية إذ وصلت قيمة الدولار الواحد إلى نحو 560 ريالاً، مع ما يتطلبه هذا الأمر من ترشيد في الإنفاق، لا يتوقف هادي عن إصدار تعيينات جديدة، تارةً لوكلاء وزارات، وتارة أخرى لوكلاء المحافظين، فضلاً عن قائمة لا تنتهي من المستشارين، حتى أن بعض اليمنيين باتوا يطلقون بسخرية لقب "جمهورية الوكلاء والمستشارين" على بلادهم.
وإذا كان جزء من هذه التعيينات يدخل في خانة المحاباة لكبار المسؤولين في الشرعية عبر تعيين أبنائهم وزوجاتهم وحتى أقاربهم من الدرجة الثانية والثالثة، ما أدى إلى إرساء نظام التوريث العائلي في بنية النظام الوظيفي اليمني، فإن بعضها لا يخلو من اعتبارات سياسية.
إعادة رجالات صالح
يوم الأربعاء الماضي (8 أغسطس/آب الحالي)، أصدر هادي قرارين، قضى الأول بتعيين حافظ معياد مستشاراً لرئيس الجمهورية ورئيساً للجنة الاقتصادية، والثاني عيّن بموجبه نبيل حسن الفقيه وزيراً للخدمة المدنية والتأمينات، متسبباً في موجة انتقادات جديدة له تحديداً من قِبل الذين رأوا أن القرارين يُعيدان على نحو واضح تدوير رجالات الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.
معياد كان واحداً من الذين شاركوا في محاولة قمع المعتصمين في ساحة التغيير التي تركّزت فيها شعلة ربيع الشباب اليمني. وتم إحراق سيارته الشخصية أمام مدخل الساحة، حيث كان يقوم عبرها بتوزيع مخصصات "البلطجية" الذين استعان بهم نظام صالح لقمع الاحتجاجات وإقفال تلك الساحة. ومعياد في الأساس كان واحداً من أذرع صالح المالية من خلال إدارته بنك التسليف الزراعي وتحويله إلى ما يشبه إقطاعية يتم عبرها صرف مرتبات موظفي الدولة، في معارضة صريحة لمهمة البنك الأساسية.
بعد ذلك ترأس معياد المؤسسة الاقتصادية اليمنية (تابعة للجيش) وهي أيضاً إمبراطورية مالية كانت في يد صالح وتعمل لمصلحته. لكن بعد تولي منصبه رئيساً للبلاد، أقال هادي في أواخر مارس/آذار 2012، معياد من منصبه، قبل أن يعيد تعيينه أخيراً مستشاراً له ورئيساً للجنة الاقتصادية.
وبحسب وكالة الأنباء اليمنية التي تديرها الشرعية، فإن اللجنة الاقتصادية التي بات معياد يترأسها، تضم في عضويتها كلاً من نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الخدمة المدنية والتأمينات، ووزراء المالية، والتخطيط والتعاون الدولي، والنقل والنفط والمعادن، والثروة السمكية، والمغتربين، والاتصالات، والسياحة، وممثلاً عن مكتب رئاسة الجمهورية وأمين عام مجلس الوزراء، ما يعني أن هادي قرر منحه دوراً رئيسياً في رسم السياسات الاقتصادية للبلاد خلال المرحلة المقبلة.
أما نبيل الفقيه فعيّنه هادي وزيراً للخدمة المدنية، وهو المنصب الوزاري الذي بقي شاغراً بعد استقالة نائب رئيس الوزراء وزير الخدمة عبد العزيز جباري، الذي أعلن في مارس/آذار الماضي احتجاجه على سياسة التحالف في اليمن. الفقيه واحد من الأذرع الخفية لنجل شقيق الرئيس الراحل، يحيى محمد عبدالله صالح، المقيم في بيروت. كان رئيساً للقطاع المالي في شركة الخطوط الجوية اليمنية ومن بعدها تدرّج ليكون وزيراً للسياحة، قبل أن يتجه لرئاسة أهم شركة يمنية للتبغ والكبريت. هذه المعطيات تُظهر أن هذين القرارين قد أتيا باثنين من رجالات علي عبدالله صالح الاقتصاديين، وقاما بإعادة تدويرهما ليظهرا اليوم على صورة مسؤولين في الشرعية.
هكذا تبدو إعادة تدوير نظام صالح قائمة، خصوصاً إذا ما تم ربطها بالتطورات التي تعيد نظام صالح العائلي إلى قلب الحكم. حتى أن هناك من يقول إن إعادة ترتيب البيت السياسي اليمني وإرجاع رجالات صالح إلى الضوء، إنما أتت عبر توجيهات من القيادة الإماراتية، التي تضع ثقلها الكبير حالياً عبر طارق صالح نجل شقيق الرئيس الراحل، وهو من يقوم هذه الأيام بقيادة المعارك على الساحل الغربي اليمني في الحديدة. ولا يمكن إغفال العلاقة التي تربط وزير الخدمة المدنية الجديد بيحيى صالح، شقيق طارق.
يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة صنعاء، عادل الشرجبي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن التعيينات التي تجرى في اليمن تقوم على فكرة الغنيمة والتعامل مع الدولة كنقطة استفادة يجب نهبها إلى أقصى حد. ويوضح الشرجبي أن صالح قام برسم خريطة قوة بناءً على دراسات واسعة للخريطة القبلية والمناطقية والمذهبية، ومدى تأثير المشايخ والنخب التجارية والثقافية، وصنع نخباً بديلة لمن لا يقبل بمبدأ العبودية الطوعية، واعتماداً على مؤشرات هذه الخريطة كان يقوم بتعيين المسؤولين، مضيفاً أن هادي "يقوم حالياً بالاستفادة منها على نطاق واسع، ويسير على خطى صالح، وهو الأمر الذي يعني أن نظام الرئيس الراحل لا يزال قائماً".
النظام العائلي مجدداً
على الرغم من أن ثورة الشباب اليمني السلمية قد اندلعت لمواجهة نظام التوريث العائلي الذي كان قائماً في عهد صالح، وهي الثورة نفسها التي أتت بهادي رئيساً، لكن يبدو اليوم أن الأخير نسي هذا الأمر وهو يسعى منذ وصوله إلى كرسي الحكم لإعادة النظام العائلي، وإن ظهر أكثر اتساعاً من نظام القبيلة الواحدة التي كانت تتبع صالح.
التوقف عند عيّنة صغيرة من التعيينات كافٍ لفهم حجم التوريث العائلي الذي صار متغلغلاً في بنية النظام الوظيفي اليمني، من تعيين رئيس الحكومة أحمد عبيد بن دغر ابنه حسين وكيلاً لوزارة الشؤون القانونية، في حين قام بتعيين ابنه الثاني عبدالله سكرتيراً شخصياً بدرجة مدير عام، إلى تعيين سحر غانم، زوجة سكرتير الرئيس مبارك البحار، سفيرة لليمن في هولندا وسفيرة غير مقيمة لليمن في السويد. إضافة إلى تعيين بلال الأكوع، نجل وزير الكهرباء عبدالله الأكوع، مستشاراً دبلوماسياً في سفارة اليمن في ماليزيا، وتعيين إبراهيم العتواني، نجل مستشار الرئيس والقيادي الناصري سلطان العتواني، ملحقاً طبياً في سفارة اليمن في ماليزيا. كذلك تعيين زوجة وزير السياحة عبد المجيد القباطي مستشارة لرئيس الوزراء بدرجة وكيل وزارة.
أما وزير الخارجية السابق عبدالملك المخلافي فقام بتعيين نجله هشام المخلافي وكيلاً لوزارة التخطيط، وابنه الثاني أسامة سكرتيراً بدرجة مدير عام في وزارة الخارجية. في حين عُيّن محمد طه مصطفى، شقيق الرجل القريب من هادي، نصر طه مصطفى، سفيراً لليمن في بلجيكا والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن قائمة لا تنتهي من المسؤولين الذين استغلوا مناصبهم لاستصدار قرارات توظيف لأقاربهم داخل مؤسسات الدولة.
وقبل كل هؤلاء، ينبغي المرور على شخصية جلال عبد ربه منصور هادي، الذي يؤدي اليوم الدور نفسه الذي كان يقوم به أحمد علي نجل صالح. ويبدو جلال ممسكاً بأغلب قرارات التعيين الخاصة بأركان السفارات اليمنية في الخارج، إضافة لأركان الوزارات التي يقيم أغلب نوابها ووكلاؤها خارج اليمن ويتقاضون رواتب بالعملة الصعبة في سابقة تحدث لأول مرة في تاريخ الحياة السياسية اليمنية، في حين يرفض أغلبهم العودة إلى اليمن بحجة عدم توافر الأمان وأن حياتهم ستكون معرضة للخطر في مدينة عدن، حيث تتفاقم عمليات الاغتيال السياسي.
مواجهة فساد التعيينات
وفي مواجهة الفساد في تلك التعيينات، قام عدد من الصحافيين والحقوقيين أخيراً بالإعلان عن مبادرة "من أجل تحالف قانوني وإعلامي لمكافحة فساد التعيينات الحكومية". وهي حركة أطلقها الناشط اليمني، الموظف السابق في السفارة اليمنية في باريس، مصطفى الجبزي لمكافحة فساد تعيينات الوظيفة العام. وفي البيان الذي أعلنه الجبزي واشترك في توقيعه عشرات الصحافيين والحقوقيين، حددت المبادرة أهدافها بإيقاف العبث بالوظيفة العامة وتقاسم الوظائف والمناصب وهتك تقاليد إدارة الدولة. يضاف إلى ذلك الحفاظ على الدولة ككيان جامع لليمنيين من العبث والتقاسم والمحاصصة، وكبح الترهل والتوريث في مؤسسات الدولة.
المبادرة بدت واضحة لجهة تحركاتها المقبلة، بما في ذلك التوجّه لرفع قضايا أمام المحكمة الإدارية في العاصمة المؤقتة عدن بخصوص فساد التعيينات في الوظيفة العامة والمخالفة للقوانين واللوائح، وإعادة الاعتبار لمفهوم الوظيفة العامة اجتماعياً وقانونياً، فضلاً عن تشكيل ضغط إعلامي لمتابعة القضايا المرفوعة أمام المحكمة، واطلاع الرأي العام بمستجداتها، وتشكيل قناة مجتمعية بين الصحافيين والمواطنين لمكافحة فساد الوظيفة العامة يتيح جمع المعلومات وإيصالها وتحويلها إلى مسار التقاضي القانوني.
ويقول الصحافي اليمني المقيم في سويسرا، صدام أبو عاصم، وهو أحد مؤسسي المبادرة، في حديث مع "العربي الجديد"، إن تحالف مكافحة فساد التعيينات هي مبادرة رقابية شعبية بدأها صحافيون وناشطون ومحامون، تهدف لوقف العبث بالوظيفة العامة. وعبر أساليب ووسائل كثيرة، سيتم العمل من أجل وقف هذا التداعي المريع للجهاز الإداري للدولة، إذ يقوم صحافيون برصد هذه المخالفات في القرارات بأسلوب توثيقي وموضوعي ومن ثم يقوم فريق قانوني برفع دعاوى قضائية ضد من أصدر هذه القرارات، أشخاص ومؤسسات.
ويلفت أبو عاصم إلى أن هذا الأمر قد يبدو صعباً بعض الشيء في فترة الحرب التي تعصف باليمن منذ حوالي 4 سنوات، "لكن محاولة خلق روح رقابية في أوساط المجتمع ومحاسبة المسؤولين عن التعيينات المخالفة قد يؤسس لمبدأ الشفافية لاحقاً حتى بعد وقف الحرب".