مثّل الاحتفال الذي أقامه "المجلس الانتقالي الجنوبي"، مؤخرا، بمناسبة مرور عام على تأسيسه، صورة واضحة عن طبيعة التحول في المشهد السياسي في جنوب اليمن، وفي الحراك الجنوبي منه على وجه الخصوص.
أحتوى برنامج الاحتفال الباذخ، عروض عسكرية رمزية تمر أمام عيدروس الزبيدي رئيس المجلس، وعلى يمينه اللواء أحمد بن بريك، الذي لا يمتلك أي قوة عسكرية أو تنظيم اجتماعي وسياسي، وعلى اليسار وقف أحمد لملس، القادم- مع سابقه (اللواء بن بريك)- من المؤتمر الشعبي العام وليس من الحراك الجنوبي.
يظهر الثلاثة كقيادة للمجلس، وهم يرتدون الفل والنظارات السوداء، ويمشون على السجاد الأحمر، بما هو تعبير لحالة جديدة تعكس التغير الضمني الذي نتج عن طبيعة التحول في مسار الحراك الجنوبي؛ من النضال الشعبي إلى الاحتفالات النخبوية الباذخة بفضل الدعم الإماراتي السخي للمجلس.
في الجهة المقابلة؛ وعلى عكس المناسبات التاريخية التي كان يحشد لها الحراك الجنوبي طوال عقد من الزمن على شكل مهرجانات شعبية ومظاهرات حاشدة من مختلف المحافظات الجنوبية، فقد اقتصر احتفاله الأخير في عدن، على جمهور صغير يشاهد عروضا عسكرية وكرنفالية وغنائية.
وتمت فعالية الزبيدي في شارع المعلا بمهرجان جماهيري كبير، فيما أقيمت فعالية أخرى في ساحة الحراك الشهيرة بخور مكسر.
بداية التحول
كانت المرة الأولى، تقريبا، في تاريخ الجنوب، التي انقسم فيها الشارع الحراكي- على نحو أكثر وضوحا- إلى تظاهرتين مختلفتين في مناسبة واحدة، في الـ7 من يوليو2017. أي بعد تأسيس المجلس بأقل من شهرين.
ويعود السبب في ذلك الانقسام؛ إلى بروز شخصيات حراكية وأخرى من المقاومة الجنوبية التي تصدرت أثناء تحرير عدن، ترفض العمل ضمن مشروع الزبيدي في المجلس الانتقالي نتيجة صراعات حادة معه، وخاصة بعد تقديم المجلس نفسه على أنه الممثل الوحيد للجنوب والسلطة العليا عليه.
ولم يعد خافيا، دعم الإمارات لرجليها الأقوى في المجلس الإنتقالي: عيدروس الزبيدي ونائبه الشيخ السلفي هاني بن بريك. والأول؛ تتبعه عدة ألوية تُدفع مرتباتها من إيرادات محافظة عدن، فيما تتولى دولة الإمارات دفع نسبة كبيرة أيضا من الحوافز المالية وشراء عتادها العسكري وصرفيات تأهيلها وتدريبها. أما الثاني (نائبه بن بريك)، فتوكل إليه الإمارات مهمة الإشراف الأولى على قوات الحزام الأمني، المكونة من أغلبية سلفية.
ومع تزايد الدعم الإماراتي لرجليها الأقوى في المجلس الإنتقالي، زادت حدة التناقض والتنافر بين أطراف الحراك الجنوبي.
في شهر أكتوبر 2018؛ عقد التيار الموالي للقيادي في الحراك الجنوبي ناصر باعوم مؤتمرا خاصا في عدن، رفض فيه احتكار المجلس الانتقالي للقضية الجنوبية. أكثر من ذلك، اعتبر باعوم، الذي يعد أحد أهم مؤسسي الحراك في العام 2007، التواجد العربي في جنوب اليمن احتلالا للجنوب. وهو مؤشر على حجم التصدع الذي أصاب الحراك، ليس في الجانب التنظيمي فقط وإنما في طبيعة النظرة للقضية الجنوبية وسبل حلها.
وتزايدت حدة الانقسامات في صفوف الحراك، بعد رفض عيدروس الزبيدي تسليم مقر محافظة عدن وعرقلة الحكومة الشرعية عن أداء مهامها، ما أدى في النهاية إلى تقديم محافظ عدن عبدالعزيز المفلحي استقالته، والتي أرجع لاحقا، أسباب لفساد بن دغر، بعد أن كان في السابق أرجع الأسباب لفساد المحافظ السابق المقال (عيدروس).
الموقف من طارق صالح وأحداث يناير
مطلع يناير 2018؛ فر طارق صالح، نجل شقيق الرئيس المخلوع صالح، من صنعاء- بعد معارك صغيرة استمرت لأيام مع حليفهم الحوثي- إلى عدن بحماية ودعم إماراتي لإعادة تأسيس قوات جديدة له بهدف محاربة الحوثي. وكان موقف المجلس الداعم لطارق وقواته سقوطا أخلاقيا واضحا للمجلس الانتقالي أمام الجماهير التي يزعم تفويضها له والتي ظلت تعارض صالح وعائلته عقود من الزمن.
وفسر كثيرون هذا الموقف بأن المجلس تخلى كليا عن المشروع الجنوبي باستعادة الدولة عبر موالاة عائلة مؤسس النظام السابق الذي قاد عملية الاستيلاء على عدن في 94، واجتياحها مع الانقلابيين الحوثيين في 2015م. وهو موقف رفضه أغلبية قادة المقاومة والشخصيات الجنوبية. لكن هؤلاء ليس لهم داعمون وقوات عسكرية تتبعهم.
في 28 يناير الماضي؛ شن المجلس الانتقالي بدعم إماراتي عمليات عسكرية للسيطرة على عدن وإسقاط الحكومة الشرعية التي يرأسها رئيس الحكومة اليمنية أحمد عبيد بن دغر. وفعلا استطاع السيطرة على نسبة كبيرة من محافظة عدن، غير أنه لم ينجح في تحقيق هدف إسقاط الحكومة. وتدخلت السعودية لإزالة التوتر، وإنهاء المواجهات التي كانت بدأت تتصاعد تدريجيا.
لكن القتال العسكري في يناير، أعاد تحفيز الصراع العنيف في الجنوب قبل الوحدة بين محور الضالع التي ينتمي إليها عيدروس الزبيدي، وأبين التي ينتمي إليها الرئيس هادي. واتخذ القتال بعدا مناطقيا صرفا خلّف مئات القتلى والجرحى وأعقبه عمليات اقتحامات ونهب وسلب.
ورغم المدة القصيرة لمعارك يناير التي لم تتجاوز ثلاثة أيام، وعشرات عمليات الاغتيالات التي طالت خطباء وقادة مقاومة وضباط، فإنها كانت عبارة عن انعكاس لحقيقة المشهد المعقد في الجنوب وهشاشة مشروع الانفصال، أو ما يسميه الحراك استعادة دولة الجنوب.
أحداث سقطرى
وفي مطلع مايو الجاري، زارت الحكومة اليمنية- ضمن زياراتها للمحافظات المحررة في الجنوب- محافظة أرخبيل سقطرى، كانعكاس لمحاولة الحكومة استعادة نشاطها بعد تقرير لجنة الخبراء الدولية الذي وصف الحكومة الشرعية وسلطتها بالمتآكلة.
وفي خضم تلك الزيارة؛ أنزلت القوات الإماراتية في جزيرة سقطرى قوات عسكرية ومدرعات ودبابات وجنود إماراتيين استولوا على مطار وميناء سقطرى دون معرفة- أو أي تنسيق مع- الحكومة. وردت الحكومة باعتبار ذلك احتلالا يمس سيادة البلد ووحدته.
هذه الأحداث أعادت تقسيم الشارع في الجنوب مجددا، بعد أن كان الصوت الموالي للانفصال هو الغالب، إلا من أنصار الأحزاب السياسية. وكما هو معروف فإن الخيارات في الجنوب محدودة تقوم على ثنائية الانفصال أو استمرار الوحدة. وعليه فقد شهدت محافظة سقطرى مظاهرات حاشدة مؤيدة للحكومة وللوحدة اليمنية، وامتدت التظاهرات إلى محافظة المهرة، وكُتبت شعارات رافضة للإمارات، في مدن يمنية جنوبية، بما فيها عدن وسقطرى، تنادي بـ"رحيل الاحتلال الإماراتي".
وسبقته مظاهرات بدأت بالتزايد بشعارات مرتفعة مناوئة للتحالف العربي برمته في عدن.
العودة إلى الوحدة مجددا
شكل الهدف من تأسيس المجلس الانتقالي، والذي يتمثل بأنه سلطة لحكم الجنوب، نقطة ضعفه الرئيسية. إذ احتوت قيادة المجلس على توليفة متناقضة ومتنافرة. فمن ناحية يأتي عيدروس الزبيدي من الحراك الجنوبي، ويملك قوة عسكرية معظمها من أبناء محافظته (الضالع) وأخرين يتبعون الحراك الجنوبي. بينما ينتمي نائبه، الذي يقود قوة عسكرية منفصلة عن الأولى، إلى السلفيين. فيما استحوذت القيادات القادمة من المؤتمر الشعبي العام أغلبية أعضاء المجلس. كما أن الدعم الإماراتي لبعض الشخصيات في المجلس والتجاهل التام للقيادات الأخرى، كفضل الجعدي وناصر الخبجي وغيرهم، أدى إلى تراجع أدوارهم بشكل واضح، مؤخرا، مقارنة بما كانوا عليه في بداية تشكل المجلس.
من جهة أخرى، استطاع الرئيس هادي تحييد واستمالة قيادات أخرى في المجلس ومن الحراك الجنوبي الآخر، وعلى رأس هؤلاء اللواء فرج البحسني قائد النخبة الحضرمية والمنطقة العسكرية الثانية، من خلال تعيينه محافظا لحضرموت. وعمل البحسني على دمج قواته ضمن قوام الجيش اليمني، كي لا تكون مليشيات مسلحة كسياسة حضرمية ترفض الصراعات السياسية المشتعلة في عدن وأبين والضالع. كما عين هادي عدة شخصيات منشقة من الأجنحة المسلحة التابعة للإمارات والمجلس الانتقالي في جهاز الدولة، وإن كان هؤلاء شخصيات ليس من وزن كبير، إلا أنها مؤشر إلى حجم التحول هناك.
التهميش الكبير والصراع المناطقي التاريخي بين الضالع ويافع من جهة، وأبين وشبوة من جهة أخرى، نتج عنه غياب تمثيل حقيقي لمحافظة أبين بشكل خاص، وبالتالي من وجود أي تأثير كبير في المجلس. وكذلك تخلى الشيخ عبدالله بن عفرار، أحد أهم سلاطين المهرة وسقطرى، عن المجلس .
والخيارات في الجنوب محدودة. فمن يعارض الحكومة يرفع شعار الانفصال، كالمحافظين المقالين من الحكومة نفسها. بينما من يتخلى عن الحراك، ينضم للوحدة مجددا.
ولهذا كان وزير الداخلية القادم من أبين، أحمد الميسري، معارضا بشدة لتحركات المجلس لأبعاد مناطقية كما يفسرها كثيرون. فيما يقول الميسري نفسه إنه مع يمن اتحادي يقوده الرئيس هادي ويرفضه الانتقالي وآخرون. واستقبل الميسري نائب مدير أمن الضالع في عدن بعد أسابيع قليلة من استيلاء الحزام الأمني على الضالع بالقوة العسكرية على حساب المؤسسات الرسمية، والتي كانت موالية للانفصال، ولكن لطبيعة التنافس الشخصي تغيرت مواقفها.
موقف الميسري ليس الوحيد، فقد عمل محافظ أبين الجديد على تجنيب محافظته من أي تظاهرات أو فعاليات مؤيدة للانفصال. واعترضت شخصيات وقيادات عسكرية من أبين- رغم ضعفها- على تعزيزات عسكرية للمجلس الانتقالي أثناء أحداث يناير الماضي.
على المستوى الشعبي تضاءلت الآمال- نتيجة الخطاب الشعبوي- بإمكانية تبني المجلس لأي مؤسسية أو ديمقراطية أو خوض حوارات مع قوى جنوبية مضادة للمجلس، بما فيها هادي والأحزاب السياسية. وبدأ صوت الانفصال يخفت بسرعة مفاجئة. في الوقت الذي زادت فيه الآمال بمشروع الحكومة التي يحملها هادي.
أخبار ذات صلة
الإثنين, 18 ديسمبر, 2017
قراءة استدراكية في: نشأة وطبيعة التشكيل وتحديات ومستقبل "المجلس الانتقالي الجنوبي"