"أيها الزنوج، لا تدعوا الشمس تغرب عليكم وأنتم في مدينتنا"، رُفعت عبارات مشابهة في العديد من المدن الأمريكية في جنوب البلاد وشمالها، خلال الشطر الأعظم من القرن العشرين، ويقدر أن عدد المدن التي كانت لا تسمح لذوي البشرة السوداء بالتجول فيها بعد حلول الظلام بما يزيد عن 10 آلاف مدينة أمريكية، وقد أطلق على تلك المدن العنصرية اسم "مدن غروب الشمس"… تعالوا نروِ لكم قصتها:
ظهرت أوائل الأمثلة المسجلة في التاريخ على مدن الغروب في أمريكا خلال الحقبة الاستعمارية.
ففي عام 1759، حيث مرّرت "مقاطعة نيو هامبشير" اشتراطاً يحظر تنقل السكان غير البيض ليلاً، وذلك بحجة منع "الاضطرابات" في المساء، وقد جاء فيه:
"نظراً لأنّ الاضطرابات، والتطاولات، وعمليات السطو الكبرى تقع أو تُرتكب عادةً في المساء بواسطة الخدم والعبيد من الهنود والزنوج والمولاتو بغرض إقلاق وأذية رعايا جلالتها الطيبين… فإنّه من غير المسموح لأي خادم أو عبد هندي أو زنجي أو مولاتو أن يتغيّب عن العائلة التي ينتمي لها أو يخرج من المنزل في المساء بعد الساعة التاسعة إلّا بتكليفٍ من سيده أو مالكه".
وكانت تلك الاشتراطات، التي تُنشر عادةً في الصحف المحلية، تُنفّذ على يد السلطات البيضاء بالقوة عادةً، ولم يعترض عليها سوى القليل من المواطنين البيض.
لكن في النهاية كان العديد من البيض يعتبرون العبيد ملكيةً خاصة، ولم يرغبوا في أن تبتعد عنهم "أملاكهم" إطلاقاً.
وفي أعقاب الحرب الأهلية وإلغاء العبودية في الولايات المتحدة، بدأ عددٌ من مشرعي الجنوب في تمرير قوانين تمييزية تحرم الأمريكيين من أصل إفريقي من حقوقٍ لا حصر لها، وقد عرفت هذه الفترة باسم حقبة جيم كرو، وفقاً لما ورد في موقع All That's Interesting الأمريكي.
وفي حقبة جيم كرو، بدأت مدن الغروب تفرض سيطرتها ليس في الجنوب فقط إنما في الشمال أيضاً، إذ كان يُسمح للسود بدخول هذه المدن في النهار للعمل في الغالب، لكن يتوجب عليهم أن يخرجوا من المدينة قبل أن يحل الظلام، وإلّا خاطروا بالتعرض للاعتقال أو الضرب أو حتى القتل على يد السكان البيض.
ومن الصعب معرفة عدد هذه المدن على وجه التحديد، لكن عالم الاجتماع جيمس لوين قدّر عددها في ذروتها عام 1970 بنحو 10 آلاف مدينة في جنوب البلاد وشمالها.
هجرة إجبارية أو طوعية من الجنوب إلى الشمال
لا شك بالطبع في أنّ مدن الغروب كان لها وجود قوي في الجنوب على وجه الخصوص، حيث كان الجنوبيون يطردون ذوي البشرة السوداء من مجتمعاتهم بالفعل.
فخلال الصيف الأحمر الدامي لعام 1919، جمعت عصابةٌ مسلحة من البيض في مدينة كوربن بولاية كنتاكي نحو 300 من الرجال والنساء والأطفال ذوي البشرة السوداء، وأجبرتهم بالعنف على ركوب عربات القطار المتجهة إلى مدن أخرى.
ومع ذلك، فقد رحل العديد من الأمريكيين الأفارقة عن الجنوب بمحض إرادتهم. فأثناء الهجرة الكبرى، انتقل أكثر من ستة ملايين شخص أسود من الجنوب إلى الشمال والغرب الأوسط والغرب، وذلك بين عامي 1916 و1970.
وكان العديد من المنتقلين يأملون في حياةٍ أفضل بمكانٍ آخر من الولايات المتحدة، ولكنهم -مع الأسف- كانوا يجدون أنّ العنصرية لا تزال تُمثّل مشكلةً كبرى حتى داخل المدن الحضرية "الراقية" في الشمال.
ومع انتشار السيارات، كان السائقون السود أكثر حماساً لاستكشاف أجزاءٍ أخرى من الولايات المتحدة، من أجل العثور على أفضل مكانٍ للاستقرار فيه، ولكن على الطريق بدأ أولئك المسافرون يدركون سريعاً أنّ عليهم تجنّب مدن الغروب بأي ثمن.
كيف انتشرت مدن الغروب في مختلف أرجاء أمريكا
من أكبر المفاهيم المغلوطة حول التاريخ الأمريكي أنّ "الجنوب" (الذي يشمل أي ولاية كانت تابعة للحكومة الكونفيدرالية ذات يوم) كان رجعياً وعنصرياً بالكامل، وأنّ "الشمال" (الذي كان يحمل اسم "الاتحاد" في زمن الحرب الأهلية) كان يُرحّب بكافة الأعراق والألوان والعقائد.
ولكن بإلقاء نظرةٍ مقربة على واقع مدن الغروب فقط سنكتشف أنّ "الشمال" لم يكُن يختلف كثيراً عن "الجنوب"، فيما يتعلّق بمعاملة ذوي البشرة السمراء، وغيرهم من الأقليات.
ولا شكّ أنّ الجنوب كان أكثر صراحةً في عنصريته، ولم تكن مدن الغروب الجنوبية استثناءً.
حيث كانت هناك مثلاً لافتةٌ معلقة على مداخل مدينة أليكس في ولاية أركنساس، وكانت تحمل التحذير التالي: "أيها الزنوج لا تدعوا الشمس تغرب عليكم وأنتم في أليكس".
وعلى بُعد ساعتين جنوباً في مدينة مينا من نفس الولاية، كانت هناك لافتةٌ تُسوّق للمدينة على النحو التالي: "صيف لطيف وشتاءٌ مُعتدل، بدون عواصف ثلجية أو زنوج".
ولكن رغم انتشار تلك اللافتات التحذيرية في أنحاء الجنوب، كانت المدن من مختلف أرجاء البلاد واضحةً للغاية في رفضها لوجود السود.
وربما لم تكُن مجتمعات الغروب في الشمال والغرب الأوسط والغرب تحتوي على لافتات تحذيرية هجومية تُحذّر الرجال والنساء السود من الدخول، ولكنها كانت على نفس الاستعداد لتطبيق تلك القواعد بعنفٍ وحشي.
ففي مدينة دولوث بولاية مينيسوتا، تعرّض ثلاثة من فناني السيرك السود للاختطاف من سجنٍ محلي على يد عصابةٍ بيضاء، وقامت العصابة بضربهم في الشارع وشنقهم على أحد أعمدة الهاتف عام 1920.
وبعد بضعة عقود في فيينا بولاية إلينوي، خرجت عصابةٌ من البيض إلى الشوارع بعد فرار رجلٍ أسود من السجن، وأضرموا النيران في كافة منازل الأمريكيين الأفارقة لإجبارهم جميعاً تقريباً على الفرار.
وصارت قائمة مدن الغروب المتزايدة طويلةً للغاية، لدرجة أنّ أحد المسافرين السود ويُدعى فيكتور غرين ألّف "الكتاب الأخضر للسائق الزنجي Negro Motorist Green Book".
وكان الكتاب بمثابة دليل نصي للمسافرين السود الطموحين الذين يرغبون في الاستمتاع بالطريق المفتوح مع البقاء على قيد الحياة، كما تضمّن الكتاب قائمةً بالمطاعم والفنادق والمتاجر وغيرها من المحال التجارية التي قد تُرحّب بهم.
مدن قائمة إلى اليوم!
بينما كان يُعتقد في وقتٍ ما أنّ مدن الغروب صارت من أطلال الماضي المخزية؛ لا يزال بعض المسافرين السود يُؤكّدون أنّها لا تزال قائمةً حتى يومنا هذا بشكلٍ أو بآخر.
حيث تحدّث أحد الرحّالة السود، الذي يُدعى ماركو ويليامز، عن تجربةٍ مثيرة للقلق داخل استراحة زارها بولاية كنتاكي، في يونيو/حزيران عام 2020.
إذ روى ويليامز: "قالت لي الفتاة الجالسة عند الكاشير: (يُفضّل ألّا تتواجد هنا بعد حلول الظلام، هذه مدينة غروب). ولا أعتقد أنّها كانت تتعامل معي بعنصرية، بل شعرت أنّها كانت قلقةً بشأني، لذا صدّقتها ورحلت سريعاً"، وذلك وفقاً لما ورد في موقع Buzz Feed.
وفي الواقع، يتحدّث العديد من السكان السود الذين يعيشون داخل مدن الغروب -سابقاً- عن مشاعر عدم الارتياح أثناء خروجهم من المنزل حتى الآن.
حيث قال نيكولاس لويس، أحد السكان السود في فيينا بولاية إلينوي: "أشعر بغرابةٍ شديدة عند الخروج هنا أحياناً، وفي كل مرة أتجوّل فيها تلاحقني العيون".
تسليط الضوء على التاريخ الخفي
في عام 2005، نشر عالم الاجتماع جيمس لوين كتابه "مدن الغروب: البُعد الخفي للعنصرية الأمريكية Sundown Towns: A Hidden Dimension of American Racism". وكان هذا الكتاب محاولةً لاستعراض الجانب القبيح من التاريخ، الذي لطالما تغاضت عنه الكتب المدرسية الأمريكية.
وقد عادت مدن الغروب إلى دائرة الضوء مجدداً عام 2020 بفضل مسلسل شبكة HBO الشهير: Lovecraft Country.
وقصة المسلسل مبنيةٌ على رواية تحمل الاسم نفسه، حيث تروي الأحداث حكاية رجل وامرأة من ذوي البشرة السوداء، وهم يُسافرون عبر أمريكا في حقبة جيم كرو، من أجل محاول التواصل مع والد الرجل المفقود.
وفي رحلتهم على الطريق، تصل شخصيات المسلسل إلى إحدى مدن الغروب، حيث يُهددهم العمدة الأبيض بالقتل في حال عدم رحيلهم قبل غروب الشمس.
المصدر: عربي بوست