فيسبوك، وواتساب، باي بال، أمازون، جوجل، ويكيبيديا، وغيرها من المواقع والتطبيقات التي نستخدمها اليوم، ونكاد لا نستطيع إتمام يومنا دون إمضاء ساعات في استخدامها، نتواصل مع محيطنا في "قريتنا الصغيرة" عبرها ونطمئن على من نحب، نتاجر أو نتسوّق، نستمتع ونلهو، نتعبد الله ونساعد خلقه، ليست إلا مواقع من ملايين المواقع التي ظهرت وتظهر وتتنافس لخدمة البشرية، بفضل "الإنترنت"، التي يحتفى العالم اليوم بذكرى ولادتها الـ25.
ومن الواضح، لأي شخص يعيش في عالم اليوم، أن ابتكار الإنترنت ليس أقل قيمة من ابتكارات عظيمة كان لظهورها واكتشافها فضل على عموم البشرية؛ كاكتشاف الجاذبية، أو الكهرباء، أو التصوير، أو الهاتف، أو ابتكار وسائل النقل كالسيارات أو الطائرات أو "المترو"، ومن المؤكد أنّ الحياة في هذا العصر غير ممكنة من دونها، وبحسب إحصائية ظهرت في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي 2015، فإن عدد مستخدمي الإنترنت في العالم يصل إلى 3.345.832.772؛ أي نصف سكان الكوكب تقريباً.
شكراً لـ"تيم بيرنرز لي"
لا يبدو اسم "تيم بيرنرز لي" Tim Berners-Lee شائعاً ومتداولاً في وسائل الإعلام مثل أسماء لامعة في عالم الإنترنت والاتصال اليوم، مثل ستيف جوبز مؤسس آبل، ومارك زوكربيرغ مؤسس فيسبوك، إلا أنّ العالم مدين لهذه الشخصية قليلة الظهور، أكثر من أي شخصية في العالم المعاصر، ما أسسه تيم كان تحديداً نقل فكرة الشبكة من ربط مجموعة أجهزة محدودة في مؤسسات صغيرة لأغراض معينة، إلى إتاحتها للعالم لتكون شبكة عالمية يرتبط فيها كل البشر بكل البشر، بشكل غير محدود.
ففكرة الإنترنت ظهرت مطلع ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة، وكان الغرض منها خدمة الأغراض العسكرية؛ نتيجة مشروع كان تابعاً للبنتاغون، وقد أنشئ هذا المشروع من أجل ربط الجامعات ومؤسسات الأبحاث بعضها ببعض، فالإنترنت في بدايتها لم تكن مشروعاً عمومياً، إذ بدأت الشبكة كفكرة يتم البحث فيها وحولها منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي، غير أن أول عملية توصيل بين أجهزة الحاسوب وباستخدامات بسيطة بالقياس إلى زمننا الحالي تمت في الستينيات، عبر ربط أوائل الحواسيب من 4 جامعات أمريكية عام 1969، وكان ذلك عبر شبكة "ARPANET" أو "وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة" التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، عبر واجهة معالجة الرسائل لمؤسسها ليونارد كلينروك.
ابتكر مهندس الاتصالات تيم بيرنرز لي، كل ما تحتاجه شبكة الإنترنت لتصبح واقعاً متاحاً لكل العالم، عبر اقتراحه مشروع لغة تعليم النص العالمي المترابط، أو ما يعرف الآن بالـ"www" التي نبدأ بها بكتابة اسم أي موقع، ومنها تدرج إلى ابتكار الـ http، وأطلق الـ URL قبل أن يعلن عن أول برنامج لتصفح الإنترنت عام 1991، ليبشر رسمياً بإطلاق الإنترنت لعموم الناس.
وكان أول ظهور لكلمة إنترنت "Internet" عام 1982، وعام 1984 كان هناك 1000 حاسوب مرتبط بالشبكة، بعد خمس سنوات في 1989 ارتفع عددها إلى 100 ألف، وحتى ذلك الوقت لم يكن قد أعلن عن الإنترنت على الملأ في العالم.
وأعلن عن الإنترنت للجمهور عام 1991، وبعد عام تمكنت الشبكة من جذب المليون الأول من المستخدمين، إلا أن الإنترنت شاعت في كل العام مع مطلع الألفية الجديدة عام 2000.
وصباح الثلاثاء 8/23، أظهر موقع فيسبوك، الذي يضم أكثر من ثلث مستخدمي الإنترنت في العالم، رسالة شكر لـ"تيم".
قفزات
قبل الثورة الصناعية التي شهدتها إنجلترا في القرن الثامن عشر، وامتدت إلى أوروبا ومنها إلى العالم، والتي أطلقت الآلات لمعاونة الإنسان أو حتى الحلول مكانه جزئياً، وتصنيع مواد كيميائية جديدة وتحسين كفاءة الطاقة المائية، وزيادة استخدام الطاقة البخارية وغير ذلك، قبلها؛ كان العالم بليداً يمشي ببطء، لا تكاد تتغير الحياة فيه إلا بعد قرون.
وبعد الثورة بدأت وتيرة التغيير أسرع، وجاءت ما عرفت بالثورة التكنولوجية منتصف القرن التاسع عشر مع اكتشاف طريقة "بسمر" الثورية لتصنيع الصلب، وأسهمت هذه الثورة في إنتاج نطاق واسع من النظم التكنولوجية الحديثة التي لم تكن معروفة من قبل؛ مثل التليغراف وشبكات الغاز والمياه والصرف الصحي والسكك الحديدية.
ونعيش اليوم الثورة الثالثة الرقمية، ثورة عصر المعلومات، والتي تعتمد بشكل كبير على الإنترنت، والروبوت، والتحكم عن بعد، والذكاء الصنعي، في حين نستعد للدخول في "الثورة الرابعة" بحسب ما يبشر منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، لعصر يدير فيه الروبوت وحده حياتنا حتى إنه يقود سيارتنا.
وما يميز ثورة الإنترنت هو وتيرة التغيير والابتكار الهائلة في نمط الحياة، بمختلف أشكالها، حيث لا نحتاج إلى أكثر من خمس سنوات لكي تحل تكنولوجيا جديدة كلياً محل تكنولوجيا كانت قبل سنوات ثورية وغير متوقعة، ومن ثم حدوث تغيير كبير في حياة الناس وطريقة معيشتهم.
ماذا أضافت إلى حياتنا؟
يصعب بالفعل إحصاء كيف غيّرت الإنترنت حياتنا، وما أضافت إليها مع كل هذا الزخم، وهي التي تهدد وجود عدد من الابتكارات العظيمة كالفاكس، والصحف الورقية وحتى التلفاز، واستغنت كثير من الحكومات عن تعاملاتها الورقية، وباتت تستخدم رسمياً الإنترنت وخدماته مثل البريد الإلكتروني في إجراء المعاملات؛ ما أسهم بشكل هائل بتسريع وتيرة خدمة مواطنيها وفاعليتها.
وباتت الإنترنت نافذتك التي تنظر منها إلى العالم، كل مكان من العالم، باتت لديك خرائط بالغة الدقة لكل حي وشارع على سطح المعمورة، وصورة عالية الدقة ومن أكثر من زاوية لكل معلم من معالم المدن والقرى في الكوكب.
وإذا كنت في شرق الأرض فلن تحتاج لأكثر من نقرة حتى تتصل بشكل مرئي عبر الإنترنت، وتتحدث بالصوت والصورة مع من تريد في غرب الأرض، ولن تحتاج بعد اليوم للرسائل المكتوبة لتطمئن أحباءك أنك بخير، الأمر يتم اليوم خلال ثانية واحدة.
وإن أردت شراء أي منتج، مهما كان صغيراً كوجبة غداء أو ربطة عنق، أو كبيراً، كسيارة أو منزل أو عقار، أصبح بإمكانك عقد صفقة عبر الإنترنت بكل أمان وثقة، من غير أن تتزحزح من مكانك.
وتقدر التجارة الإلكترونية بألوف المليارات، ويعد أغنى أثرياء عالم اليوم هو من رواد شبكة الإنترنت وصانعيها وتجارها، كما باتت الإنترنت مصدر رزق لملايين البشر عبر العالم.
ولو رغبت بدراسة تخصص في جامعات مرموقة، أو التدريب في دورات من معاهد متخصصة في عواصم العلم، فيمكنك أن تفعل ذلك من منزلك، وتحصل على شهادة محترفة تؤهلك لدخول سوق العمل.
وانتقلت كل وسائل الإعلام بكل أشكالها إلى الإنترنت، فالصحف باتت إلكترونية، والقنوات التلفازية حجزت مساحات لها للبث المباشر على الإنترنت، وانتشرت مواقع الأخبار وتطبيقاتها على الهواتف الذكية، وباتت الإنترنت المصدر الأول على الإطلاق للأخبار.
كما باتت شبكة الإنترنت المصدر الأول للمعرفة والبحث بالنسبة لجميع فئات الناس، بمن فيهم المتخصصون؛ بفضل المكتبات الافتراضية العملاقة، وخدمات البحث الإلكتروني الدقيقة.
ولم يعد هناك معنى للترفيه، إلا إن كان مرتبطاً بطريقة ما بالإنترنت، من الموسيقى إلى السينما إلى الألعاب، وباتت ألعاب الإنترنت، والتي يمكن لعبها مع أشخاص متنوعين في العالم بشكل جماعي، أحد أكثر الظواهر انتشاراً.
والإنترنت هي أفضل مكان للتعبير عن الرأي بحرية، فقد انتشرت المدونات ومنصات التدوين المطول والمصغر.
كما باتت الإنترنت ساحة معركة بين الدول، وبين الأحزاب، ومنصة للحشد الجماهيري، وللدعاية الانتخابية، كل شيء يجري على الأرض الواقعية، بات يحدث على أرض العالم الافتراضي الجميل هذا.