أخيرا زُف العريس إلى عروسه، وتدحرجت العبرات فرحا والتقيا وجها لوجه، أما القلوب فهي متصلة منذ 18 عاما وعلامتها عهود قطعها المحبان سويا بينهما، ووثقاها بارتباط مقدس يظلان عليه أبد الدهر كزوجين معا، وإن طال الغياب كل هذه السنوات.
قبل اعتقاله عام 2002 بـ3 أشهر فقط، أراد الثائر الفلسطيني عبد الكريم مخضر آنذاك والأسير فيما بعد، أن يُتوج نضاله بالزواج بحثا عن استقرار وسكينة عند محبوبة تكون له ملاذا إذا ما ضاق به العيش كمطارد من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وروحه مرهونة لبنادق جنوده الذين ما انفكوا يحاصرون قريته عمورية قرب مدينة نابلس شمال الضفة الغربية ويجتاحونها لأسره أو قتله.
3 أشهر فقط هي كامل المدة التي جلسها الأسير المحرر عبد الكريم مخضر(49 عاما) مع خطيبته جنان سمارة، قبل أن يتم اعتقاله عند حاجز إسرائيلي على أيدي جنود الاحتلال، لتبدأ بعدها حياة من نوع آخر لم تعهدها جنان من قبل ورفضت أن تستسلم لها في الوقت ذاته، فحياة السجن تحتاج لصبر وعزيمة يعرفها الفلسطيني والفلسطيني فقط.
بدافع وطني وحب وانتماء قررت جنان أن تظل على العهد، وأن تبقي على حبل الود متصلا لكل هذه السنوات وتحصد بذلك أطول مدة "خطوبة" بين اثنين لا يعرف على وجه التحديد أيهما كان أسيرا للآخر، وتتوج بزواج بدأت مراسمه منذ لحظة الإفراج عنه من سجون الاحتلال الأحد الماضي، عندما استقبلته وكل المحبين له ولها من عائلتيهما ووسائل الإعلام أيضا عند حاجز الجلمة الإسرائيلي شمال الضفة الغربية.
وبباقة ورد حملتها إليه على عجل وهاتف خلوي وساعة جديدة كهدية رمزية استقبلت جنان خطيبها، وعزفت على وقع حميم اللقاء كل كلمات الشوق والحزن الممزوج بالفرح، وحُملت قبله على الأكتاف وتشابكت يداهما لدقائق قبل أن ينقلا معا لقرية "سيلة الظهر" القريبة من الحاجز، ويقام حفل الاستقبال في منزل صديق عبد الكريم -الأسير محمد أبو خضر- كما أوصى ورتب لذلك مع ذويه من داخل سجنه، فصحبة الأسر وثيقة لا تفك.
في اليوم الثاني من الإفراج عادت جنان هذه المرة رفقة زوجها الأسير عبد الكريم، يعملان كخلية نحل في تحضير طقوس الزواج سواء في قريتها بروقين قرب مدينة سلفيت أو في قريته عمورية، ولا سيما وأنهما قررا أن يكون الزواج عقب الإفراج مباشرة، فالمنزل جاهز وكذلك دعوات الحفل وغير ذلك من الترتيبات التي يعمل بها الأصدقاء والأهل على قدم وساق، فالكل يبحث عن ساعة فرح تبدد حزن السنين الخاوية وآلامها.
ومنذ البداية شكلت جنان حلقة وصل بين من تغيبه القضبان وزنازين المعتقل وبين عمورية القرية الوادعة برأس الجبل، والتي تسكن روح عبد الكريم ووجدانه، فكانت ترفده بكل ما يطلبه منها من صور وفيديوهات "كنا ندخلها سرا للسجن" وأية مستجدات فيها، وكانت عين خطيبها على أهله وأمه التي أعياها المرض بعد سنوات من اعتقاله، فتوفيت وهي توصي بهدية الزفاف لـ"جوجو" كما كانت تنادي جنان وهي "ليرة ذهبية"، وعلى الفور أوفى لها بذلك.
وهي أيضا صانت ودها معه كأسير فاحتفظت برسائله وهداياه لها، ومنها تلك العبوة الحمراء المطرزة بألوان التراث الفلسطيني لتضع فيها مصاغها الذهبي وحليها التي سيلبسها لها وقت الزفاف، ومع الأسرى وذويهم فقد حافظت على علاقة متينة معهم بالاتصال بهم والاطمئنان عليهم وزيارتهم في بيوتهم، وبعد الإفراج تكفلت بدعوتهم وأقاربهم إلى العرس ولا سيما أولئك الذين خطّ أرقامهم على جيب بنطاله من الداخل قبيل الإفراج عنه.
في سجون الاحتلال يقبع عشرات الأسرى المرتبطين بأنصافهم الأخرى خارج القضبان، وعبد الكريم هو الحالة الثالثة التي يتم زواجها بين الأسرى هذا العام، لكنها الأولى التي يطول فيها الانتظار هذا الحد من السنين.
لكن لا بأس "فليس بعد عتم السجن إلا الفرج" يقول الخطيبان، فيما كانت تختار جنان بدلة زفافه، فهي تعرف مقاس ملابسه، ويردفان قولهما إنهما اليوم يعيشان أجمل لحظات العمر في أجواء فرح يشترك فيها الجميع من الأهل ورفاق الدرب ووسائل الإعلام التي ما انفكت تغطي حكاية جنان وعبد الكريم.