تَرَكَ فيروس كورونا المُستجَد الكثير من الأدلة، بما فيها الانتشار غير المتكافئ في أجزاءٍ مختلفةٍ من العالم، والتأثير الخفيف في الأغلب على الأطفال. وربما يكون الأمر الأكثر إثارةً للحيرة هو النسبة الكبيرة بشكلٍ غير معتاد من المصابين الذين لا تظهر عليهم أعراض المرض. قدَّرَت مراكز التحكُّم في الأمراض والوقاية منها الشهر الماضي، يوليو/تموز، ذلك المُعدَّل بحوالي 40%.
دفعت هذه الأدلة العلماء إلى اتجاهاتٍ مختلفة، إذ ينظر بعضهم في دور الخلايا المستقبلة، التي يستخدمها الفيروس لاختراق الجسم، من أجل التوصُّل إلى فهمٍ أفضل للدور الذي قد يضطلع به العمر والجينات، حسب صحيفة Washington Post الأمريكية. ويتعمَّق علماء آخرون في الأقنعة الواقية وما إذا كانت ربما بإمكانها فلترة الفيروس بحيث يعاني من يرتديها من أعراضٍ خفيفة أو لا تظهر عليهم أيُّ أعراض.
أما النظرية التي ولَّدَت أكبر قدرٍ من الإثارة في الأسابيع الأخيرة، فهي أن بعض الناس يعيشون بيننا قد تكون لديهم مناعةٌ جزئية بالفعل.
روَّجَت عناوين الأخبار لفكرةٍ تقوم على أن تحاليل الدم قد كشفت أن 20% من الناس في بعض مجتمعات ولاية نيويورك الأمريكية قد يكونون منيعين من الإصابة بالفيروس، فيما تصل نسبتهم في ستوكهولم إلى 7.3%، و7.1% في برشلونة.
وجاءت هذه النسب من النظر إلى الأجسام المضادة في دماء الناس، تلك الأجسام المضادة التي تتطوَّر بعدما يتعرَّض أصحابها للفيروس. لكن علماءً يعتقدون أن جزءاً آخر من جهازنا المناعي، وهو الخلايا التائية -وهي نوعٌ من خلايا الدم البيضاء يقود الجهاز المناعي برمته- قد يكون أهم في مكافحة فيروس كورونا المُستجَد.
تطرح دراساتٌ أخرى أن الأجسام المضادة المُتولِّدة عن التعرُّض لفيروس كورونا المُستجَد تظلُّ باقيةً لحوالي شهرين أو 3 أشهر لدى بعض الناس. وبينما لا يزال العمل على الخلايا التائية وفيروس كورونا المُستجَد في طور البدء -اختبار الخلايا التائية أكثر مشقةً بكثير من اختبار الأجسام المضادة- أظهر بحثٌ سابق أن الخلايا التائية بشكلٍ عام تميل إلى البقاء لسنواتٍ من الزمن.
نُشِرَت إحدى الدراسات التي خضعت للمراجعة حول فيروس كورونا المُستجَد والخلايا التائية في منتصف مايو/أيَّار الماضي في دورية Cell، وكانت من إعداد أليساندرو سيت، وشين كروتي، وآخرين من معهد لاهويا لعلم المناعة.
وكان هؤلاء العلماء يدرسون عيناتٍ من دم أناسٍ كانوا يتعافون من الإصابة بفيروس كورونا المُستجَد، وأرادوا أن يقارنوا هذه العينات بعيناتٍ لأناسٍ غير مصابين كانوا قد تبرَّعوا إلى بنكٍ للدم من 2015 إلى 2018. ووَجَدَ العلماء أن 40 إلى 60% من العينات القديمة تحتوي على خلايا تائية بدا أنها تتعرَّف على فيروس كورونا المُستجَد.
قال سيت: "الفيروس لم يكن موجوداً في ذلك الوقت، لذا فإن التمتُّع بهذه المناعة أمرٌ مُذهِل". وأفادت فِرَقٌ بحثية من خمسة مواقع أخرى بنتائج مشابهة. وفي دراسةٍ من هولندا، تفاعلت الخلايا التائية مع الفيروس في 20% من العينات، فيما بلغت النسبة 34% في ألمانيا، و50% في سنغافورة.
وافترضت الفِرَق المختلفة أن هذا قد يكون بسبب التعرُّض السابق لمُسبِّباتٍ مشابهة للمرض. ربما من حسن الحظ أن فيروس كورونا المُستجَد هو جزءٌ من عائلةٍ كبيرة من الفيروسات. يُعَدُّ اثنان من هذه العائلة -سارس وميرس- قاتلين، وتفشَّى كلٌّ منهما على نحوٍ وجيزٍ من قبل وجرى احتواؤه.
وتنتشر أربعة فيروسات أخرى من العائلة نفسها، يسبِّبون نزلات البرد، على نطاقٍ واسع كلَّ عامٍ، لكنهم يؤدون إلى أعراضٍ خفيفة فحسب. يُطلِق عليهم سيت "أبناء العم الأقل شراً لفيروس كورونا المُستجَد".
هذا الأسبوع، سجَّلَ سيت وآخرون من الفريق بحثاً جديداً في مجلة Science الأمريكية، مُقدِّمين دليلاً على أن استجابة الخلايا التائية قد تُستَمَد جزئياً من ذاكرة فيروسات عائلة كورونا التي تسبِّب نزلات البرد. قال سيت: "الجهاز المناعي هو آلة ذاكرة بالأساس. إنه يتذكَّر ويقاتل على نحوٍ أقوى".
المثير للاهتمام هو أن الباحثين لاحظوا في ورقتهم أن أقوى تفاعل شهدوه كان ضد البروتينات التي يستخدمها الفيروس من أجل الدخول إلى الخلايا، طارحين أن نسخاً فيروسية أقل تجتاز هذه الدفاعات.
أضاف سيت: "يفترض النموذج الحالي إما أنك محميٌّ أو أنك لست محمياً -إنه أمرٌ لا يفترض إجابات غير نعم أو لا. لكن إذا تمتَّع بعض الناس بمستوى معين من المناعة الموجودة مُسبَّقاً، قد يطرح هذا أن هذه المناعة لا تمثِّل تحوُّلاً، بل أكثر استمرارية".
بالتعاون مع خبراء في تحليل البيانات من شركة Nference، التي تدير البيانات السريرية، نَظَرَ سيت وعلماء آخرون في سجلاتٍ من 137,037 تلقوا علاجاً في النظام الصحي، من أجل البحث في العلاقة بين اللقاحات وعدوى فيروس كورونا المُستجَد.
وتوصَّلوا إلى أن لقاح الجدري على سبيل المثال تبيَّن أنه يقي من الحصبة والسعال الديكي. واليوم، يُدرَس عددٌ من اللقاحات الموجودة بالفعل لبحث ما إذا كان أيٌّ منها قد يوفِّر وقايةً متقاطعة ضد فيروس كورونا المُستجَد.
تبيَّن أن سبعة من اللقاحات التي حُقِنَت في العام الماضي أو العامين أو الخمسة الماضية، كانت مرتبطةً بمُعدِّلٍ أقل من العدوى بفيروس كورونا المُستجَد. وبدا أن لقاحين بشكلٍ خاص قد أظهرا صلةً أقوى، إذ اتضح أن الناس الذين تلقوا لقاح الالتهاب الرئوي في الماضي القريب قد يتعرَّضون لخطر الإصابة بفيروس كورونا المُستجَد بنسبة 28% أقل. وأولئك الذين تلقوا لقاح شلل الأطفال، تقل خطورة الإصابة لديهم بنسبة 43%.
تقوم هذه الدراسة فقط على الملاحظات، ولا يمكنها أن تُبيِّن ارتباطاً سببياً، لكن الباحثين يدرسون طريقة لتحديد نشاط هذه اللقاحات على فيروس كورونا المُستجَد لتكون بمثابة معايير للقاحات الجديدة التي تعمل عليها شركاتٌ مثل Moderna لتطوير العقاقير. وإذا تبيَّن أن اللقاحات الموجودة بالفعل تقي من الفيروس مثل اللقاحات قيد التطوير، فقد تُغيِّر هذه اللقاحات استراتيجية اللقاحات في العالم أجمع.