أكبر ما يعاب على الأمة العربية أنها لا تقرأ، ولا تبغي لمسلك القراءة سبيلا.
وأعظم من ذلك أنها لا تقرأ التاريخ، ولا ترجع إليه لتتخذه نبراسا ونورا في طريقها ليكشف لها الضباب ويزيل عنها الغبش، لتبني الحاضر وتشيد صرح المستتقبل بأيادٍ ثابتة.
فالتاريخ أعظم معلم للبشرية، فيه الحِكم والعبر، فيه التجارب والسير، منه نعرف الصواب فنتبناه ونعرف الخطأ فنتفاداه.
التاريخ هو الأساس الذي تبنى عليه البنيان الشامخة، هو الأصل الذي منه تتفرع الفروع.
ويكفيك كي تعرف أهميته أن تعلم أنه ثلث القرآن، فالقرآن الكريم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم متعلق بالتوحيد، وآخر متعلق بالتشريع، وثالث متعلق بالقَصص، فهل تظن أن ثلث القرآن هكذا حكي وسرد وحِكم بلا فائدة!
وهنا يرد علينا سؤال؛ إذا كان التاريخ يكتسب كل هاته الأهمية فلماذا تعزف الأمة عن قراءته؟ وما فائدة قراءة تاريخ لزمان ولّى وغبر؟ فالْنُشغل أنفسنا بما نحن فيه فذاك أولى!
عليك أن تعلم أن أمة بلا تاريخ ميزانها صفر بين الأمم، وفي الحقيقة ليست هناك أمة لا تاريخ لها، إذ كيف يُعقل أن يوجد حاضر لا ماضي له، وإنما هناك طمس وتزوير للحقائق، إما لتضليل الحق وإما لأن تاريخهم لا يُشرِّف بأحداثه البشعة، أو أن فترة من الزمن لم تدون.
وكثير من الدول ممن لم يدون تاريخها تخلق أشخاصا وهميين وأبطالا أسطوريين من الخيال، وتنفق أموالا باهضة على مثل تلك المشاريع من إنتاج أفلام وطباعة كتب..
ثم أسألك سؤالا، لماذا تهتم كثيرا بمعرفة أبائك وأجدادك؟ في حين نجد أن الابن غير الشرعي يمقته المجتمع، لماذا يا تُرى! لأن من لا أصل لا فرع له، ولولا قصر المقام لسقت لك أمثلة وأدلة لتتبيَّن الأمر عن بصيرة.
– لماذا لا نقرأ التاريخ؟
هناك عدة أسباب تجعلنا نعزف عن قراءة التاريخ منها:
أولا: ما نقرؤه منذ نعومة أظافرنا في المقررات المدرسية في مادة التاريخ، فغالبا ما تتناول أحداثا هامشية، وفي الغالب نجدها تتضارب مع الحقيقة، ولا يُراد لنا أن نعرف تاريخنا المجيد، خدمة لمصالح شخصية وأجندات سياسية، فتاريخنا العظيم تعرض لتزوير منقطع النظير، وهنا يأتي دور القارئ الباحث، فالحقيقة لن تأتي إليك على طبق من فضة، بل عليك بالبحث والسبر لتكشف الحقيقة جلية من مصادرها وتزيل التشويش عنها.
ثانيا: الكثير منا يجد أن التاريخ شيء مُمِّل، بأحداث طويلة وكثرة أسماء وشخصيات لا طائل من ورائها.
وهذا نقول له أن النهر أوله قطرة ماء، والزوبعة تثيرها حبة رمل، فعليك بقراءة الروايات التاريخية والمذكرات الشخصية في البداية، وكذا مشاهدة الأفلام التاريخية، وإن كان كل هذا لا يحمل تاريخا زرينا ولا يكسبك المَلَكة التاريخية، وكثيرا ما يَتِم طمس الحقيقة فيه أو لوي عنقها، إلا أنه كبداية لا بأس بها لطرد الممل وبث شغف القراءة.
ثالثا: وهو عامل نفسي يتمثل في ضعف الشخصية وانبهار بالغرب، واتباعهم في ما قل أو جل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه، وهذا يزرعه بالأساس في نفوس الشباب العربي الهيام بنجوم السينما والكرة وكل لامع وبارق، وبالتالي خلقنا شيئاً من لا شيء وأساطير من الخيال، في المقابل استصغرنا كل هو عربي أو إسلامي وركناه في زاوية التخلف والرجعية؛ فالانبهار يولد الانصهار فالاندثار.
رابعا: وهناك طابور رابع، لا يجد في قراءة التاريخ أدنى فائدة، إذ تلك أحداث ولَّى زمانها وبليت عظام منتجيها، وهذا نجيب عنه بإذن الله تعالى في فوائد التاريخ، وهو العنصر التالي.
– مِن فوائد التاريخ
للتاريخ فوائد جمَّة لا سبيل لحصرها، إذ كل شيء مرة عليه زمن بداية من اللحظة التي تقرأ فيها هاته المقالة تاريخ، وكل العلوم لها تاريخ، فأبعاد التاريخ الثلاثة التي هي الزمان والمكان والحدث تشمل كل شيء ولا يخلو موجود منها؛ وإنما نذكر هنا ما جادت به القريحة بشكل من الإجمال.
أولا: أن بالانكباب على قراءة التاريخ وسبر حكمه والغوص تحت نواميسه يستطيع اللبيب الفطن توقع المستقبل، إذ لا سبيل إلى استشراف ما هو آت إلا عبر دراسة ما فات، وكفى بها من فائدة جليلة، وهذا لا يناقض أبدا علم الغيب، وإنما هذا مبني على دراسة تحليلية تحت قواعد وأرقام وإحصاءات وتجارب سالفة، ويحضرني في هذا المقام عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة رحمه الله، إذ بلغ الغاية في هذا العلم.
ثانيا: الوقوف على التجارب الصحيصة الدارة للمنافع وتبنيها، والنظر في أخطاء الأولين وتفاديها، إذ لا فائدة مع إعادة أخطاء سبقت، تُنفق فيها الأموال وتبدل الجهود لنعيد نفس الخطأ، وهذا ينطبق على حياة كل فرد منا وعلى واقعنا المعيش، فخطأ اليوم لا تعده غدا، بل قومه وسدده.
ثالثا: أن بدراسة التاريخ تعرف الصديق من العدو، وتعلم كيف يفكر خصمك، وما هي أساليب مكره، وكيف يخطط لك، إذ إن الإنسان هو نفسه مذ أن خُلق، وإنما التغيير البسيط يأتي في نمط الحياة، وهذا لا يؤثر كثيرا في أفكار الإنسان، وأقصد هنا الأفكار الأساسية كالمعتقدات والثوابت الدينية والفكرية.
رابعا: يساعد كافة الباحثين والمتخصصين في تتبع مسار تخصصهم وكيفية تطوره وتفرعه، وما الضرورة التي دعت لنشأة ذاك العلم، وهذا يساعد كثيرا في إضافة الجديد لها بشكل أوضح وأدق.
خامسا: يسلط التاريخ الضوء على الحركات الدينية والسياسية والعلاقة الجدلية بينهما؛ الأهداف التي أدت إلى تلك الحركات وأسبابها وغاياتها.
سادسا: وأخيرا يعطينا التاريخ نماذج متنوعة من القدوات في شتى الميادين وكافة الأصعدة، لتربية أجيال ذات شخصية قوية تعتز بتارخها وأبطالها لا بالوهم والأساطير، وتعيش الواقع لا الخيال.
وفي النهاية يبقى التاريخ أعظم معلم عبر الزمن، ومن لا يهتم بالتاريخ لا هُوية له، وما ينفك أن يكون إِمَّعة عَالةً على غيره شاغرا فاه انبهارا بالغير، مغلوب على أمره، كما قال ابن خلدون رحمه الله: المغلوب مولوع دائما باتباع الغالب.
المصدر: موقع MTA Post