تعد محافظة تعز أكبر محافظة يمنية من حيث السكان، كما تعد أكبر منطقة صناعية وتجارية في اليمن، وينتمي غالبية القيادات السياسية والحزبية والإدارية والتجارية والثقافية في اليمن إلى نفس المحافظة، هذه العوامل بالإضافة إلى فقر المدينة الشديد للموارد الطبيعية هي المؤثر الأول في الصياغة الحديثة نسبيا لبنيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي مواقفها من إشكالات القضية الوطنية اليمنية.
تنزع المحافظة إلى تبني اتجاهات حديثة في حل المشكلة الوطنية من خلال إطار الجمهورية والديمقراطية والقوانين الحديثة الأقل بيروقراطية، ولذا لها دور بارز في ثورة 11فبراير في خلع النظام الاستبدادي العصبوي الذي شكله نظام صالح، كما خرجت المحافظة في تظاهرات حاشدة قبيل الحرب الأخيرة التي شنها الانقلاب على كل محافظات اليمن، ترفض دخول المليشيات إلى تعز قبل أن تقاوم الانقلاب بقوة السلاح.
لكن تاريخ حضور الدولة في تعز خلال فترة الجمهورية حتى الآن كان يتجسد فقط من خلال الحضور العسكري والأمني من مناطق صنعاء وذمار وعمران وغيرها. كانت هذه المناصب محتكرة كليا من قبل أعمدة النظام من تلك المناطق.
وبين الواقعين (بنية تعز السياسية الاجتماعية وتجربة حضور الدولة منذ الجمهورية) تولدت عدة مشكلات: تنزع المدينة إلى تطوير المؤسسات القانونية والإدارية والاقتصادية وتتظاهر وتناضل بكثافة حاشدة ومستمرة من أجل الحرية وسيادة القانون، بينما لم تكن استجابة الدولة إلا في الحدود الدنيا عبر ضبط الأمن فقط عند حدود معينة، مع ارتفاع مضطرد في نسبة الجرائم في المحافظة.
بعد الانقلاب وانهيار الدولة كليا وقعت تعز أمام التحدي الحقيقي وهي رغبة الشارع في دولة حقيقية تلبي مطالب الثورة في مسائل الحرية والكرامة، والغياب الكلي لشكل الدولة القديم المتمثل في حضور أمني عسكري من ذمار وصنعاء وغيرها.
كثيرة جدا هي القيادات التي تصدرت المشهد العسكري والأمني في تعز من سكان المحافظة، وبقدر نجاحهم في استعادة السيطرة على معظم مركز المحافظة ومناطق واسعة من المديريات إلا أنها فشلت بشكل مهول في الحفاظ على الأمن والاستقرار في المناطق المحررة.
ورغم التظاهرات التي تطالب أجهزة الأمن والجيش بضبط الأمن، فإن كل الحملات الأمنية التي تقوم بها المؤسسة الأمنية والعسكرية في تعز تنجح مؤقتا ثم تتجدد مظاهر الانفلات الأمني على شكل انتشار جرائم القتل والسرقة والنهب للمؤسسات الخاصة والعامة.
في أغسطس 2017م زار نائب رئيس الوزراء وزير الخدمة المدنية عبدالعزيز جباري محافظة تعز، حينها استطاع فتح مقر للبنك المركزي واستلام عشرات المواقع والمؤسسات المدنية من المقاومة والألوية العسكرية وإعادتها للسلطة الشرعية، غير أنه بمجرد مغادرته للمدينة توقفت كل تلك الأنشطة وعادت الاشتباكات الداخلية والانفلات الأمني والقتل والسطو بشكل مكثف.
بمعنى أن المشاركات الكبيرة للقواعد الشعبية في تعز تريد ضبط قواعد الحكم بدرجة رئيسة بما يلبي تطلعات البنية السياسية والاجتماعية لها أكثر من كونها تريد المشاركة في الحكم قبل ضبط تلك المؤسسات.
*العنوان الكامل للمقال هو" نموذج الدولة في الخيال التعزي (ضبط قواعد الحكم دون المشاركة فيه)" وتم اختصاره للجزء الأول بحكم ضيق المساحة المخصصة للعنوان بنافذة" رأي".
اقراء أيضاً
كيف يهزم العصيان المدني الحوثيين؟
تهديد الحوثي ككلب بلا أنياب
كي لا يخطف الحوثي المبعوث الأممي