فوجئ مراقبون كثيرون في اليمن وخارجها، قبل أيام، بمقتل الرئيس المخلوع، علي عبد الله صالح، بعد يومين فقط من إعلانه فض شراكةٍ انقلابية على الشرعية اليمنية مع جماعة الحوثي المسلحة دامت ثلاث سنوات. وبمقتله سقطت الأوهام التي ظلت تسوقها جهات خارجية وداخلية عن صالح، بوصفه الطرف الأقوى الذي يمسك بزمام الأمور في اليمن، مهما تغير موقعه.
لم يعد الحديث عن الصراع بين طرفي الانقلاب في اليمن، جماعتَي الحوثي وصالح، يحتمل تفسيرا آخر بغير ما هو ظاهر، فالصراع اليوم تعمّد بدم الزعيم المؤسس لحزب المؤتمر الشعبي، وإن كانت نهايته مآلا حتميا ومنطقيا لتحالفٍ قام بين جبهتين انقلابيتين غير متجانستين، يجمعهما ويفرقهما أطماعهما في الاستيلاء على سلطةٍ ليست لهم، ويشتركان في رفض الشراكة، إلا أن توقيت الأحداث وتسارعها هو ما يضع تساؤلاتٍ كثيرة.
يرتبط توقيت تفجّر الصراع بين طرفي الانقلاب بصراع آخر وسباق بين سيناريوهات الحسم ضد الحوثي؛ بناء على كيف سيتم الحسم، ولمن سينسب الفضل في الحسم لإعطائه مزايا حكم مستقبل اليمن.
يقوم السيناريو الأول على دعم الشرعية اليمنية، برئاسة عبد ربه منصور هادي، ويشمل نائب الرئيس، الجنرال علي محسن الأحمر، بما يمثله من قوة عسكرية ونفوذ قبلي، كما يشمل تحالفا مع مجموعة من القوى السياسية، وفي مقدمتها حزب التجمع اليمني للإصلاح (الإسلامي)، وهو الأكثر شعبية وتنظيما ونفوذا.. ويبدو هذا السيناريو بديهيا، بالنظر إلى أن شرعية تدخل التحالف العربي، كانت بحجة استعادة الشرعية اليمنية وقانونيتها الدولية، وقامت على هذا الأساس، وهو سيناريو يقبله من دون أن يحرص عليه الجانب السعودي، وحاول أن يبدو عليه ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، من خلال لقاءاته الأخيرة بالرئيس هادي، ونائبه محسن، وبقيادة حزب الإصلاح والمقيمين جميعا في الرياض.
بدأت أخيرا مؤشرات لإمكانية نجاح هذا السيناريو، من خلال انتصاراتٍ عسكرية لافتة في نهم وأرحب، المشرفتين على العاصمة صنعاء، في الأيام القليلة التي سبقت إعلان صالح فض الشراكة مع الحوثي. وكان هذا السيناريو سيعني، في أحد مخرجاته، إقصاء إرث صالح من المشهد المقبل لليمن، مع تمكين سياسي لقوى التغيير التي أفرزتها ثورة فبراير، والتي تكون القوام الفعلي للشرعية اليمنية. ويرى كثيرون أنه لطالما كانت هذه المخرجات مرفوضة، بل وسببا في عرقلة كل محاولات الحسم السابقة من دولة الإمارات، والمؤثرة في التحالف، في سياق معركتها المزعومة ضد قوى التغيير التي شكلت وحركت ثورات الربيع العربي.
تشير المعطيات الميدانية والمعلومات إلى أن الإمارات، على الرغم من اشتراكها العسكري المعلن، والمؤثر في اليمن، كانت وبشكل مناقض تعمل على إعاقة أي دعم كبير للجبهات في مأرب باتجاه صنعاء، يمكن أن يحسم المعركة، وتعرقل دعم تحرير تعز، بل وينسب إليها بوضوح العمل على إفراز أوضاع مختلة في المناطق التي حرّرتها الشرعية، مثل عدن، بما فيها منع عودة الرئيس هادي إلى عدن، ودعم كيانات موازية في المناطق المحرّرة معادية له، ولحكومته الشرعية، حيث موّلت واحتضنت ودعمت عسكريا كل أعضاء المجلس الجنوبي الذي يرأسه عيدروس الزبيدي، والذي يدعو إلى تقسيم اليمن، وعدم الاعتراف بالحكومة الشرعية اليمنية.
هنا يأتي دور الحديث عن السيناريو الذي تريده الإمارات، والمدعوم سعوديا، حول إعادة نظام صالح إلى المعادلة عبر صالح قبل مقتله، والان عبر ابنه الذي ظل مقيما فيها طوال فترة الحرب التي كان يفترض أن والده يقاتلهم فيها! وقد ظلت الإمارات تسوق قدرة صالح على حسم المعركة في اليمن، وأنه بالاتفاق معها، وفي اللحظة المناسبة، سينقلب مع ابنه على الحوثي، وسيقدّمان منقذيْن لليمن من العصابة التي ساهما أساسا في صناعتها، ويتم دعمهما لإعادة اليمن إلى ما قبل 2011، وليس ما قبل 2014.
بعد مقتل صالح بساعات فقط، كان إعلام التحالف يعمل، بكل طاقته، لإبراز أحمد علي عبدالله صالح، في خلافة والده، مع إضافة مبرّرات الثأر لوالده، بدلا من الوطن، سبيلا، وذلك لتمكينه من المشهد في اليمن، وهو وهم جديد يحاول تسويقه، بعد أن ثبت أن صالح نفسه، بكل التاريخ والنفوذ الذي كان يملكه، لم يصمد يومين أمام بطش مليشيات الحوثي في صنعاء.
كان تحالف صالح مع الحوثي يمنح الجماعة غطاءً طائفيا وسياسيا، فالجماعة المصنفة يمنياً طائفية كانت تتغلغل في البيئات الطاردة لها، عبر أتباع صالح المتنوعين، كما أن تحالفها مع شكل سياسي، وهو حزب المؤتمر الشعبي العام، كان يمثل غطاءً سياسيا لها. وعلى الرغم من حديث بعضهم إن انتفاضة صالح لم تكن إلا بعد محاصرة ممتلكات خاصة بأقاربه، وهو مؤشر سلبي، يظهر فيه صالح قداسة لممتلكات عائلته، بعد أن فرط في كل اليمن قبل ثلاث سنوات فقط. وأنه لم يكن لينقلب على الحوثي، إلا بعد أن وجد نفسه يفقد أضيق مساحة لنفوذه، وهي المربع العائلي في صنعاء، وأنه استخدم فقط الفرصة الأخيرة له. ولكن يبقى المهم أن صالح، بهذه الدعوة، رفع الغطاءين، السياسي والطائفي، عن الحوثي، ويمكن القول إنه صنع فرصة حقيقية لليمنيين لحسم المعركة، واستعادة الشرعية والدولة اليمنية، حيث يفترض أن يتوحد اليمنيون الآن تحت راية الشرعية والدفاع عن الجمهورية.
يمكن التعامل مع هذه الفرصة بسيناريوهين أيضا، إما أن تستجيب عائلة صالح وقواعد "المؤتمر الشعبي العام" وقياداته لدعوة زعيمهم المغدور إلى الانتفاضة ضد الحوثي، ولن يكون ذلك إلا بوحدتهم مع باقي اليمنيين، بإرادة يمنية داخلية، تحت راية الشرعية والرئيس هادي، لتحرير الدولة اليمنية، ويكون الجميع متساوين في ظل القانون اليمني، وفق مخرجات الحوار الوطني، وما أفرزته ثورة فبراير من دون إقصاء لأي طرف.
السيناريو الآخر هو استغلال ما حدث لإبراز أحمد علي صالح قائدا بديلا، ليس ضمن قوات الجيش الوطني الذي يتبع الشرعية، بل كيانا موازيا للشرعية في شمال اليمن، يهدف إلى أن تكون له زمام المبادرة، وحسم المعركة لمصلحته، ليتم توجيهه لاحقا بشكل عدائي لثورة فبراير، وتقويض شرعية هادي الذي جاءت به هذه الثورة.
وباعتبار أن القوى الوطنية والجيش الوطني الذي يحمي الشرعية اليمنية تشكل من القوى الوطنية المساندة لثورة التغيير 2011، فإن السيناريو الثاني سيؤدي حتما إلى إحداث الصراع، ومزيد من الإضعاف لجبهة الشرعية أو المقاومة لمليشيا الحوثي، وإلى مزيد من تمكين جماعة الحوثي والنفوذ الإيراني من اليمن.
وعلى الرغم من هذه الحتمية سيئة العواقب، فلن يمنع ذلك الطرف الخارجي الذي يتبنى هذا المشروع من السير فيه، وهو مشروع لا علاقة له بالحرص على مصلحة اليمن أو اليمنيين ومستقبلهم، بل برغبات هذه الأطراف الخارجية ومعاركها الخاصة، فقد سبق له أن تآمر على ثورة فبراير 2011، وحاول إفشالها، وتمادى، ووصل به الأمر في 2014 إلى دعم جماعة الحوثي، الذراع الإيرانية في اليمن، إلى إسقاط العاصمة صنعاء، ومعها الدولة اليمنية، فقط للنيْل من قوى الربيع العربي، فبيان المؤتمر الشعبي العام أخيرا لم ينس أن يرضي هذا الطرف، باستمرارية الصراع ومهاجمة قوى التغيير وثورات الربيع. وفي يوم مقتل صالح، كان إعلام التحالف يعمل، بكل قوته، لاقتناص اللحظة، لتدشين هذا السيناريو، ليستمر في إحداث معارك مزعومة هوجاء ضد قوى التغيير الديموقراطي العربي، ليشتعل بها الجسد اليمني بعيدا عنها، ويتواصل قتل أحلام اليمنيين وفرصهم.
ستكون خطيئةً كبرى محاولة إعادة صناعة نظام صالح أو عائلته بحق اليمن، وبحق الشرعية، بل وبحق حزب المؤتمر، وعائلة صالح ذاتها، فالشعب اليمني حديث عهد بثورته ضد هذا النظام، وسيدفع ذلك إلى تشظي الصف المقاوم لجماعة الحوثي، كما أنه شعبٌ معروف بتسامحه، وقد تعاطف مع مقتل صالح، على الرغم من الثورة ضده، ما سيستدعي، بالضرورة، كل ثاراته مع صالح وأسرته ونظامه، إذا تم استدعاء أسرته بامتيازات الحكم، لا المواطنة، ليضعوهم بين عدائية الحوثي وثورات شعب بأكمله.
يجب أن يفهم العالم أن الشعب اليمني يعتبر أن خدمة صالح الأخيرة، إذا ما تمت الاستفادة منها، سيتم أخذها بالاعتبار تكفيرا جزئيا لماضيه في الحكم، وتحالفه مع جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وليس رصيدا يمنح الامتياز لمستقبل سياسي ينتظر عائلته، وهو ما ظهر واضحا في ردة فعل الغالبية العظمى من الشارع، وخصوصا شباب ثورة فبراير 2011، الذي يرحب بأسرة صالح وأتباعه مواطنين، يتساوون في الفرص والواجبات مع باقي أفراد الشعب اليمني، من دون أي امتيازات.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
لماذا ينتحر الحوثي في مأرب؟
الأنظمة ليست وحدها مصدر القمع
وطن خارج حدود الوطن