نجحت ثورة فبراير ثورة السلمية في قلب المعادلات التي بدا انها كانت قد استقرت لصالح نظام سياسي واجتماعي هجين ، مغلق المصالح لنخب اجتماعية وسياسية وعسكرية اختارها رأس النظام بعناية لتشكل حاملا اجتماعياً وسياسياً لنظامه.
في هذا النظام تعمقت الفوارق الاجتماعية ، فتوسعت قاعدة الفقر على نحو غير مسبوق، وتركزت الثروة بنظامها الريعي الذي جعل مركز السلطة والحكم هو مركز السيطرة على الثروة ومركز التصرف بها، تنتج الثروة في الأطراف ويتصرف بها المركز وعلى طريقته.
داخل هذا الهجين اخذ يتشكل جيب أوليجاركي بدعم من الفساد وميزانية الدولة التي لم تكن تمتثل لرقابة احد ، وراح يعيد صياغة الجمهورية بأدوات غير جمهورية داخل قوالب من العلاقات السياسية والاجتماعية والمالية والعسكرية تمهيدا لبناء نظام عائلي غير مدرك خطورة ما كان يقوم به في بلد لم تكن فيه الجمهورية مجرد نظام سياسي وإنما هوية.
كان قد اطاح بالوحدة بعد اربع سنوات من قيامها بتلك الحرب التي فتحت الباب امام الانهيارات اللاحقة للبلاد، وأخذ يكشف عن جوهره المحتقن برغبة مطلقة في التفرد بالحكم وتوريثه، ولتحقيق ذلك كان لا بد من تدمير اي محاولة لبناء نظام مؤسسي للدولة ينازعه صلاحياته المطلقة.
كانت هذه هي النقطة الجوهرية التي انطلق منها صالح في تأسيس نظامه الذي حقنه بالعداء لكل من كان يعارض التوريث ، حتى بدا وكأن الدولة كلها قد جندت لهذه المهمة، لم يكن بالإمكان مواجهة هذا النظام بأي وسيلة اخرى غير الثورة السلمية.
كانت هذه الثورة قد ورثت روافد النضال السلمي للحركة الوطنية اليمنية ، وقد يقول البعض أن معظم المحطات النضالية للحركة الوطنية كان يغلب عليها العنف، نعم هذا صحيح لان الأنظمة المستبدة لم تكن تترك فرصة للنضال السلمي او العمل السياسي المقموعين من قبلها ان يؤسسا قاعدة صلبة لمجتمع مدني يقاوم الاستبداد والفساد سلمياً وبأدوات سلمية ، ومع ذلك فقد كان النضال السلمي يواصل اختراق اجواء العنف تلك وينشئ معادلاته على الارض في صور مختلفة من العمل السياسي والثقافي والاجتماعي ، وكان يؤسس بذلك مراكز انطلاق لمجتمعات مدنية متفرقة في بعض المدن، هذه المراكز هي التي تدافعت منها روافد فبراير العظيم وذلك بعد ان اختبرت في أهم محطتين تاريخيتين هما:-
الأولى: الانتخابات الرئاسية عام ???? التي شكلت التحدي السلمي الأول للنظام الذي حاول ان يلبس برقع الديمقراطية ليخفي وجهه الحقيقي ، لكن القوى السياسية ممثلة في اللقاء المشترك يومها استطاعت ان تكشف للعالم حقيقة هذا النظام الذي لا تربطه بالديمقراطية اي صلة.
وكلنا يتذكر كيف اهتزت اليمن كلها بشعار (رئيس من اجل اليمن لا يمن من اجل الرئيس) وكيف جرى العبث بصناديق الاقتراع ليعلن التلفزيون الرسمي بعد اقل من ساعة من إغلاق صناديق الاقتراع فوز علي عبد الله صالح في تحدي واضح بالتمسك بالسلطة والاستعداد لتدمير كل شيء من اجل ذلك ، وكانت رسالة واضحة بانه لا داعي لاستكمال الفرز.
أما المحطة الأخرى فقد كانت الحراك السلمي الجنوبي الذي اعلن بإعلان التصالح والتسامح من ردفان الترميز التاريخي لثورة ?? أكتوبر في يوليو ????، وقد حمل ذلك اكثر من دلالة على رمزية الكفاح المسلح في إطار ثورة أكتوبر التي احتل النضال السلمي الشعبي فيها مساحة أوسع ، ناهيك عما عبر عنه ذلك من رد صارم لإعلان الوحدة معمدة بالدم في يوليو ????.
كانت هذه الروافع السلمية للثورة هي التي برزت في أهم لحظة تاريخية لتصنع الوحدة السلمية التي غدر بها بعد ذلك الطرف الأخر في معادلة الحرب والسلام . ولا ننسى في تساوق مع هذه المحطة وثيقة العهد والاتفاق كواحدة من اهم الاختراقات السلمية التي سجلها اليمنيون لتجنب العنف بعد ان تصاعدت أعمال العنف والاغتيالات ضد القادمين من الجنوب فيما يشبه الترتيب المسبق من أطراف بعينها لإغراق البلاد في حرب مبكرة يوم ذاك.
في هاتين المحطتين تجلت بوضوح حالة فرز حقيقي بين الميراث السياسي الدموي وميراث النضال السلمي .. فبينما كان حراس الميراث الدموي يمسكون بالسلطة ولديهم القوة الكافية لقمع اي معارضة أو ثورة تهدد كيانية نظامهم ، كان ميراث الحركة الوطنية السلمي يعيد بناء نفسه ويصحح خياراته وينسج تحالفاته بصورة لا يمكن الاستهانة بقيمتها التاريخية في الظروف المعقدة التي عاشتها السياسة اليمنية . كان قيام نظام ديمقراطي تعددي يتداول السلطة سلمياً وفقاً لانتخابات حرة هو الهدف الأساسي الذي يجب النضال من اجله سلمياً ، وان الانتصار لهذا الهدف يجب ان يجعل الانتخابات مسألة ذات قيمة حقيقية في تراكم ديمقراطي.
ما لم فان المشاركة في اي انتخابات تعيد انتاج النظام بشكل أكثر فسادا وديكتاتورية لن يكون سوى مشاركة فعلية في انتاج ودعم هذا النظام تعطلت الانتخابات، أراد نظام صالح ان يخطو خطى نظام مبارك في مصر، تحرك الربيع العربي وكانت حركته فوق ارض ملغومة بتاريخ فيه من الثغرات ، وواقع فيه من التحديات والتداخلات وتشابك قوى كانت درجة سيولة الانتقال لديها عاليه لأسباب تتعلق بحركة مصالحها المستقرة وغير المستقرة ما يكفي لإثارة كثير من الأسئلة حول مسارات الحسم لإسقاط الأنظمة.
كان الربيع اليمني يستمد خياراته من تاريخ كانت روافد السلام فيه قد تركت بصماتها بعمق في المساهمات المتكررة بإخراج البلاد من محطات الصراعات الدموية.
غير ان هذه المرة كانت هناك مقدمات لثورة شعبية وتفاعلات اجتماعية تستند في الأساس على الإحباط الشعبي العام الذي ولدته الخيبة من المأزق الذي وصل إليه النظام في تعاطيه مع كل قضايا المجتمع .. وكان هناك شعار مرفوع للتغيير بإسقاط النظام ..وتحت هذا الشعار استشهد المئات من المناضلين والشباب العزل الا من حلمهم بغد أفضل.
خاض اللقاء المشترك نضالا سياسياً شاقاً ومسئولاً في ظروف كان فيها حراس الميراث الدموي في تاريخ الصراع السياسي اليمني يتحينون الفرصة باي شكل لتفجير الموقف مستفيدين من متغيرات كثيرة حدثت في جسم الثورة . تركز نضال" المشترك" في محاور أساسية منها:-
-الثورة مكسب تاريخي لا بد من حمايتها حتى تحقق أهدافها في التغيير.
-عدم تمكين النظام من تحقيق اي ثغرة يقنع بها المجتمع الدولي بان مشكلته ليست مع الشعب وإنما مع جزء اخر من نظامه كل همهم السلطة ، وكانت مناوراته في ذلك كثيرة ينتظر اي خطأ سياسي يصدر من المشترك لينقض على الساحات .
- عدم التفاوض او الحديث نيابة عن الشباب والساحات ، وأن يترك لهم خيارات ان ينتجوا آلياتهم السياسية لتنتقل اليهم الكلمة النهائية في الموقف من اي اتفاق ..
- ان تستمر الثورة السلمية ومعها العملية السياسية خاصة وان هناك مبادرة لتسليم السلطة مطروحة بغض النظر ان كانت مجرد مراوغة او جادة .
- تجنب انزلاق البلد الى حرب أهلية بأي شكل كان.
- انتصار الثورة بتحقيق أهدافها في التوافق على بناء دولة مواطنة مدنية ديمقراطية شرط رئيسي للعملية السياسية السلمية .
- انتقال السلطة سلمياً يعقبه حوار وطني شامل لكل القوى السياسية لتحقيق عملية التغيير بأدوات سياسية بما في ذلك حل قضية الجنوب.
أخذت معادلة السلام والحرب في تاريخ اليمن الحديث تتغير لصالح السلام ..كان واضح ان فبراير يدشن عهداً جديداً لليمنيين ويفتح باباً نحو يمن يستقر بأبنائه ويستقرون به .. غير أن جحافل الانتقام وحراس الميراث الدموي حوثيين وصالحيين خرجت من جحورها لتطوي سريعا خارطة مشروع التغيير التي توزعت في وجدان اليمنيين وفي وعيهم محاولة إعادة تركيب مشروعها الدموي الإقصائي في وجدان سبق ان لفظ هذا المشروع حتى بصيغته التي قدمها هؤلاء في تجربة علي صالح.
تدمير اليمن بهذه الهمجية هو محاولة بائسة لإعادة تركيب ذلك المشروع والذي أصبح خارج التاريخ ، في مساحة من الوعي الاجتماعي الشعبي .. بينما تقول الحقيقة ان الثورة السلمية انتصرت ، وكل ما في الأمر انها لم تنتبه إلا لاحقاً لأهمية أن السلام يحتاج دائماً إلى قوة تحميه.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك
اقراء أيضاً
لا تراجع.. بل المزيد من فرض قيم وسيادة الدولة
البنك المركزي اليمني.. وقرار توسيع وترشيد المعركة
هل تعلمنا من الدرس؟!