لم يعد خافياً على أحد هول (وحجم) التضحيات الكبيرة التي قدمتها مدينة تعز، منذ بداية الحرب، من خيرة أبنائها وشبابها، وحجم الدمار الكبير الذي تعرّضت له المدينة وطرقها ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها، ومساكنها، إلى درجةٍ بات يذهب بعضهم في تشبيه ما يجري في تعز بما جرى لمدينة ستالينغراد الروسية في الحرب العالمية الثانية من الجيش الألماني.
عاشت المدينة بوقوفها حاجزاً منيعاً أمام ابتلاع المشروع الإيراني اليمن، وطوال ما يقارب العام ونصف العام من الحرب والحصار المرير الذي تتعرض له، كأكبر تكتل سكاني محاصر، جرّاء ما تقوم به مليشيات المخلوع علي عبدالله صالح والحوثي التي تمتلك أكثر من 13 لوءا عسكريا حول المدينة، عدا عن آلاف المليشيات أيضاً الطائفية التي حاولت، قبل عام، اقتحام المدينة، فانكسرت وهزمت بفعل صمود أهالي المدينة، لكنها انسحبت إلى الأطراف، لتفرض ما يشبه حصاراً خانقاً للمدينة التي يقدّر سكانها بأكثر من مليون ونصف المليون نسمة، عدا عن الملايين من سكان الأرياف التعزية.
تعز مدينة مدنية بطبعها ومحافظة مسالمة في ثقافتها، ما أهّلها لأن تلعب أدواراً وطنية وسياسية عقوداً، في كل محطات النضال الوطني، شمالاً وجنوباً، باعتبارها كانت تمثل معقلاً للحركات الوطنية والتنويرية التي أسهمت في تشكل المشروع الوطني الجمهوري الذي أثمر جمهورية 26 سبتمبر شمالاً، وجمهورية 14 أكتوبر جنوباً. فما تقدمه اليوم هذه المدينة وأريافها من تضحياتٍ ليس غريباً على دورها ونضالها الوطني الكبير، لكن ما يحدث لها، في هذه المرحلة، من خذلان من كل الأطراف في الداخل والخارج لم يعد مفهوماً، إلا باعتباره جزءاً من مؤامرة ضداً بتوجهات هذه المحافظة الوطنية التي مثلت حاملاً أميناً لأحلام المشروع الوطني اليمني الكبير في الشمال والجنوب، فشمالاً كانت تعز منبع الفكرة الجمهورية وحاملها، كما كانت كذلك جنوباً، حينما انطلق أحرارها مع كل أحرار الجنوب في ثورة التحرير من الاستعمار البريطاني الذي غادر الجنوب مكرهاً، تاركأً أكثر من 21 سلطنة ومشيخة وإمارة، كل لها علمها وجوازها الخاص بها.
تقف تعز، اليوم، على مفترق طرق، قد يفضي باليمن إلى دولةٍ وطنيةٍ اتحاديةٍ ديمقراطية، أو دويلاتٍ متقاتلةٍ ومتصارعة، ومصدر شر على المنطقة والعالم، لموقع اليمن الاستراتيجي على طرق الملاحة الدولية، وقربها من مناطق النفط وخزانتها الدولية في الخليج العربي، الذي من مصلحة ممالكه ودويلاته وحدة اليمن وأمنها واستقرارها باعتبارها مفتاحاً لأمن المنطقة واستقرارها.
حالة الخذلان والحصار المفروض على هذه المدينة لا تخدم سوى مشروع واحد متربص بالمنطقة كلها، وهو المشروع الإيراني الذي انكسر في هذه المدينة حتى الآن ولكنه يتغذى من حالة الفراغ الاستراتيجي الكبير الذي تعيشه المنطقة، والذي لم تتمكن فكرة التحالف العربي من ملئه نتيجة تناقضات الرؤى وتضارب الأجندات بين شركاء هذه التحالف الذي حتى اللحظة لم تتبلور رؤيته وتصوراته لما يجب أن يكون عليه الوضع في يمن ما بعد التحرير، عدا عن رؤيته للمنطقة كلها من بغداد حتى صنعاء.
حالة التيه، التي لو طالت فإن مصيراً سيئا ينتظر الجميع، من خلال انتصار أدوات المشروع الإيراني الذي يستفيد كثيراً من خلال عدم تحقق نصر حقيقي للتحالف العربي على الأرض في اليمن وبقاء حالة الحرب مراوحة مكانها دون أن تحقق شيئا من استعادة الدولة وعودة الحكومة وتحرر أهم المدن الراجحة في معادلة الدولة الوطنية في اليمن والتي تأتي تعز في القلب من هذه المعادلة لما تمثله من مكانة كبيرة في هذه المعادلة نظراً لكثافتها السكانية أو رمزيتها الوطنية والسياسية والتاريخية، كحاملة للمشروع الوطني اليمني.
بات من الضرورة بمكان اليوم، ومهماً أيضاً، أن تبحث النخبة التعزيّة، وكل من يتفق معها من النخب اليمنية، عن أهمية حسم معركة تعز في مقدمة كل المعارك الوطنية، لما لمعركة تعز من أهمية وطنية وسياسية كبيرة سينعكس حسمها انفراجةً على سائر معارك المشروع الوطني في عموم اليمن، شمالاً وجنوباً.
تأسيس معادلة وطنية يمنية صحيحة اليوم مرهون، بدرجةٍ كبيرةٍ، بحسم معركة تعز عسكرياً لكسر معادلة الغلبة المذهبية التي يُراد فرضها في تعز من مليشيات الحوثي وصالح، ليتسنى لهم بعد إخضاعها تمرير مشروع الغلبة الهضبوية المذهبية على بقية اليمن، ومناطقه، باعتبار أن تقبّل اليمنيين أي معادلة يمكن أن تفرض على تعز التي رفضت، حتى اللحظة، معادلة الغلبة هذه، وحيدة في مواجهة مشروع مناطقي سلالي، اختطف الدولة ومؤسساتها ومقدراتها، وسخّرها في مشروعه لإخضاع تعز وإذلالها، فانكسر أمام صمود هذه المحافظة وتضحياتها.
مشروع اليمن الاتحادي الجديد مرهون، اليوم، بما ستقوله تعز بانتصارها وإفشالها مشاريع الغلبة المناطقية والطائفية التي يُراد تمريرها بالجبر والإكراه، ولا يمكن أن تقبل بها تعز وكل الأحرار في اليمن، لكن المشكلة اليوم تكمن في مدى الخذلان الذي تعيشه مقاومة تعز من الجميع في الداخل والخارج، وهو الخذلان الذي سيدفع الجميع ثمنه غالياً، في ظل حالة الصمت هذه.
واهم أيضاً من يظن أنه سينفصل جنوباً، مكتفياً بما تحقّق من طرد للمليشيات الطائفية من الجنوب، هذه المليشيات التي اضطرّت اضطراراً لمغادرة عدن، مخافة سقوط تعز وتحرّرها بيد المقاومة، ما يعني سقوط مشروع الانقلاب في اليمن كله، وبالتالي، كان تحشيد الانقلابين واستماتتهم في تعز نابع من هذا الشعور أن معركة تعز هي معركة اليمن كله، وإن عودتهم إلى عدن والجنوب كله مرهون بانتصارهم في تعز وكسرها، وهو ما لم يتحقّق لهم حتى اللحظة.
يدرك الانقلابيون تماماً، ومن خلفهم إيران، أن مشروعي الإمامة والانفصال في اليمن، مرهون بما ستقرّره معركة تعز، وليس هذا فحسب، بل انتصار التحالف العربي مرهون بدعمهم تعز وتحريرها، وهي التي صمدت طويلاً في وجه المشروع الإيراني، وأدواته، في اليمن، من دون أي دعم يُذكر سوى ضربات الطيران التي حدّت من قوة الانقلابيين، لكنها لم تؤد إلى الانتصار عليهم، كون سلاح الجو من الناحية العسكرية ليس لتحقيق انتصار برّي بقدر ما يعمل على ضرب أهداف عسكرية محدّدة مسبقاً.
تعز هي خط الدفاع الأول عن عدن والجنوب كله، ومفتاح أمن دول الجزيرة العربية كلها، باعتبارها العمق السني للخليج، عدا عن موقعها الاستراتيجي المشرف على مضيق باب المندب الذي يمر به يومياً نحو ثلاثة مليون برميل نفط، وأكثر من عشرين ألف سفينة تجارية سنوياً، ما يعني أن تعز هي المعركة الاستراتيجية الموازية في الأهمية لمعركة تحرير صنعاء، إن لم تتفوق عليها، وأن الإسراع بدعم تحرير تعز سيسرّع من حسم أي معركة أخرى مع الانقلابيين، وخصوصاً أن معركة تعز تمتاز ببعدين، سياسي وعسكري، في آن، فسياسياً ستضمن تعز عدم ذهاب اليمن نحو التشظي والفوضى، وعسكرياً سيعد انتصارها انتصاراً لليمن الجمهوري الاتحادي الذي جاء على أساسه تدخل الأخوة في التحالف العربي.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
غير المنظور في الأزمة اليمنيّة
التنوير المجني عليه عربياً
إيران وإسرائيل وشفرة العلاقة