الوحدة والانفصال والاتحاد والتفكيك عمليات سياسية ارتبطت بقيام الدولة المعاصرة ، قبل ان تعرف هذه الدولة لم يكن لهذه المصطلحات مفاهيم سياسية ،اذ كانت تتجه بمضامينها نحو البعد الإنساني والاجتماعي في العلاقة بين الناس . هناك دول نشأت بموجب اتحادات عقدية توافقية بين قوميات وإثنيات وأعراق وديانات مختلفة وأخرى قامت بالقوة ، وكانت التوافقية العقدية منها أكثر ثباتا وديمومة .
ونشأت أخرى بالتفكيك ولم يعبها ذلك شيئا .. كما انه لم ينظر الى الدول التي قامت بالاتحاد بين أعراقها المختلفة على انها نموذج .. الفكرة هي ما يرتضيه الناس وهذا يعني ان الوحدة او الاتحاد او الانفصال او التفكيك هي وسائل لنشوء الدولة المعاصرة يقررها الناس وفقا لما تستقر عليه مصالحهم .
غير أن للعملية وجه آخر وهو التعايش والتفاهم وإدارة المصالح المشتركة باعتباره جوهر فكرة قيام الدولة . وبينما يعبر شكل الدولة عن المظهر الجيوسياسي لها فان مضمونها يكون محمولا بثقافة التعايش والتفاهم والتنوع وإدارة مصالح الجميع على قاعدة مشتركة من القيم . يكون الأول متغير وأما لثاني فهو ثابت ويوصف بأنه مفهوم وجودي أي مرادف للوجود ذاته .
لم تعرف الأمم التي بقيت موحدة باختيارات شعوبها او انفصلت بنفس هذه الاختيارات مثل هذه الثقافة التي تجتاح اليمن اليوم من شماله الى جنوبه ومن جنوبه إلى شماله .
والمؤسف أن كثيرا من النخب قد انخرطت في صناعة هذه الثقافة أو التبشير بها او تبريرها بدوافع مختلفة . بإمكان الجنوب أن يصيغ خياراته السياسية دون أن يلجأ إلى الكراهية كرافعة ثقافية لتحقيق هذه الخيارات ، وبإمكان الشمال أن يستوعب الأسباب التي قادت الجنوبيين وأجزاء واسعة من الشمال إلى إنتاج ردود أفعال كتلك التي يعبر عنها عامة الناس دون إغراق في التصعيد الى الدرجة التي يصعب معها العودة إلى جذر المشكلة .
جذر المشكلة هي أن النخب السياسية والعسكرية والثقافية عزلت الناس وتحولت إلى وصي عليهم في كل القرارات المصيرية ، هي تتخذ القرارات الكبيرة مثل الوحدة على سبيل المثال بعيدا عن إرادة الناس وتفشل في إدارتها !!! ثم تغطي فشلها بتحويل هذا المنجز إلى هدف للنقد الشعبي والاختلاف والصراع دون ان تكون قد وفرت له شروط النجاح ... وكل ما تعمله أنها تتوارى خلفه لتهرب من المسئولية وتواصل توظيفه كأداة للعقاب وإشعال الحروب .
قامت الوحدة سلميا فقرر طرف فيها ان يعمدها بالدم ، وكانت النتيجة انه لا تعمدت الوحدة ولا توقف نزيف الدم ، ثم جاءت الثورة السلمية ????وكان من نتيجتها ان تحاور اليمنيون لأول مرة فيما بينهم لإنتاج شروط بناء الدولة والتعايش والتفاهم على قواعد مشتركة يتم أخذ موافقة الشعب عليها .
البعض يعتبر هذا أسوأ مسار للحياة السياسية من منظور ان مصالحهم كانت قد استقرت في إطار نظام سياسي سابق اتسم بالفساد والقمع . وانضم كثير من هؤلاء إلى النخب التي تعودت أن تفرض خياراتها بقوة السلاح والتي شعرت بخطورة هذا الانتقال في الوعي بأهمية دور الشعب في تقرير المستقبل فعملت على إجهاض الفكرة قبل أن تنتقل إلى الممارسة العملية ، وتحالفت كلها على نحو لا إرادي في مسعى منظم لإفشال الحوار ومهدت من ثم الطريق للانقلاب على العملية السياسية السلمية كلها .
لا يمكن التغلب على هذا المزاج وهذه الثقافة إلا بالعودة إلى جذر المشكلة والاعتراف بأنها هي المنتج الرئيسي لها. وما لم تتشكل إرادة صادقة للاعتراف بحقيقة أن الشعب هو مصدر أي قرار مصيري دون أي لف او دوران فان هذه الظاهرة التي أخذت تسود المجتمع ستتواصل وستتعمق ، وسنرى أيضا الجنوب يواجه الجنوب والشمال يستعدي الشمال في تقاطعات غير مرسمه جغرافيا كما يحلو للبعض تأ طيرها بصورة تحكمية وإنما في صور عشائرية وقبلية وامتدادات أثنية وعرقية ومذهبية واستقطابات خارجية .
والذين يضجون من المشروع الوطني اليوم ولا يقدمون غير بدائل هشة فيها من الحماقة ورد الفعل أكثر مما فيها من الوجاهة لن يكونوا أكثر براءة للذمة مما قد تصل إليه البلاد من أولئك الذين حملوا المشروع الوطني وخذلوه في أهم محطاته التاريخية بالاستعانة على حمله بواسطة سلطة فاسدة ونظام قمعي يدار بأدوات عائلية .
عدن دورها محوري ، مثلما كانت دائما في كل تاريخها السياسي . ومن يريد عدن غير دلك فانه يسيء إليها ، الانقلابيون دمروا عدن ، ثم قرروا ان يواصلوا تدميرها بأسلوب آخر .
لكن اخطر ما يمكن ان يحققوه من هدفهم هو ان يوفروا شروطا لإجراءات عشوائية تقوم بها سلطتها الفتية يفقد عدن القدرة على ممارسة دورها المؤثر في التصدي للعدوان وإنتاج موقف متماسك مع تعز وبقية ساحات المواجهة .
والجنوب كله لا يستطيع ان يضع نفسه بعد ان تحرر خارج مواجهة الانقلاب حتى النهاية إذا أراد ان يلعب دوره التاريخي في بناء قيم التعايش والسلام ويقرر خياراته السياسية فيما بعد في ظروف مناسبة .
*نقلا من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
لا تراجع.. بل المزيد من فرض قيم وسيادة الدولة
البنك المركزي اليمني.. وقرار توسيع وترشيد المعركة
هل تعلمنا من الدرس؟!