رغم مرور سنوات طويلة على الحرب التي فجرتها الحوثية ومن معها ضد الدولة، إلا أن تأثير العمل السلمي والثورة السلمية، ما زال يتغلغل في بنى المجتمع اليمني خاصة في مناطق سيطرة الحوثي.
هناك مكونات اجتماعية بعضها قديمة وبعضها جديدة تؤمن بالثورة السلمية وبالعمل السلمي الشعبي الواسع الذي أسسته فبراير وشرعت مداميكه وطرقه، وتلك القوى تتمثل في قوتين مختلفتين، وعلى الأغلب لم تكن من المشاركة في ثورة فبراير 2011، لكنها تأثرت به إلى الحد الذي تراه طريقا وحيدا لبناء الدولة اليمنية مجددا.
تبدو القبيلة اليمنية هي أكثر المكونات الاجتماعية ميلا إلى العمل السلمي الشعبي الذي أسسته فبراير؛ في الشهر الأول من السنة الجارية تظاهرت قبائل الحدا، وخولان، وحراز، وصرف في صنعاء، رغم أنها مكونات اجتماعية؛ لديها قوة عسكرية منخرطة في صفوف الحوثيين، ولديها القدرة على تشكيل مليشيات للحرب لفترة طويلة، إلى الحد الذي دفع بشيوخ حراز في تظاهراتهم الأسبوع الماضي بصنعاء يقولون للحوثي "لم تكن دولة وقوة عسكرية إلا بنا، وبشباب قبيلتنا" وكانت المظاهرة التي نظموها تحتوي على مسلحين يحملون أسلحة متوسطة كالرشاشات وبعضها ثقيلة كقذائف الآر بي جي، ولكن تحولا سياسيا ومجتمعيا بطيئا، ولكن راسخا وثابتا دفع القبيلة إلى العمل السلمي.
وفي كلمة شيوخ حراز قال أحدهم إن لم يتعهد قادة الحوثي بالقبض على قتلة ابننا وإيداعه العدالة فإننا سننصب خيام الاعتصام في ميدان السبعين لإجبار الحوثي على ذلك، الأمر الذي دفع عبدالكريم الحوثي وزير داخلية المليشيا إلى طلب مهلة من المتظاهرين لتنفيذ مطالبهم.
بالتفكير التقليدي يمكن لأبناء حراز تتبع الجناة الذين قتلوا ابنها واغتيالهم، أو حتى خوض حرب ضدهم، وذلك ما يريده الحوثي، أو نكف قبلي، أو تنازل، أو حرب ثار طويلة الأمد، وهو وفق منطق الاستبداد والمنطق القديم الطريق الأسهل، لكن التحول الاجتماعي الهائل وتغيير النظر للصراعات الاجتماعية والسياسية دفعها للسير على خطى فبراير، أي العمل السلمي.
لا يمكن تفسير لجوء قبائل حراز والحدا وخولان وآنس -على سبيل المثال لا الحصر- وغيرهم في الأسابيع الأولى من السنة الجارية إلى التظاهر في صنعاء إلا بوصفه اعتذارا جريئا منهم لأنهم لم ينخرطوا في العمل السلمي بقوة هائلة وحاسمة في 2011 والسنوات اللاحقة، أو على الأقل، بسماحهم بإضاعة الفرصة، هذا لا يعني أنهم المسؤولون عن هزيمة الثورة وسقوط الجمهورية وانهيار الدولة وتمزق المجتمع، ولكن بحكم التغير الهائل للوعي السياسي والاجتماعي بعد فبراير رأوا على الأقل أن فرصة ثمينة وعظيمة أهدرت من أيديهم وكان بإمكانهم فعل شيء ما باعتبارهم قوة اجتماعية منظمة إلى حد ما لها قدرة على التأثير عند حدود معينة.
كما أنه يعد أحد أهم المؤشرات على أن تأثير ثورة فبراير على طبيعة الصراعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في البلد قد شهدت تغييرا جذريا هائلا، وأن عشر سنوات تقريبا من الانقلاب المسلح لم تستطع محو ذلك التغيير، بل إن الحوثي ينظر إلى العمل السياسي والسلمي الذي أسسته فبراير أخطر تحد يواجهه وفق وثيقة سرية مسربة صادرة عن المليشيا في أكتوبر من السنة الماضية.
هناك جيل جديد يؤمن بفبراير لم يشهد الثورة ولكنه يقتفي أثرها؛ وعلى وجه الخصوص في صنعاء، أي المدينة الأكثر قمعا من قبل مليشيا الحوثي وتشديدا أمنيا.
منذ سقوط الجمهورية بيد الحوثي حظر التظاهرات إلا لجماعته، ولم يخرق هذا الحظر بجانب المكونات الاجتماعية أعلاه إلا الجيل الجديد، الذي كان طفلا أثناء ثورة فبراير وشب في إطار الحرب.
تجلى هذا الجيل في سلسلة من المواقف هزت السلطة الحوثية، وكادت أن تفقده السلطة لولا غياب التنظيم الاجتماعي الذي يحول الفعل الشعبي إلى عمل سياسي مثمر، ومؤسس.
كانت أولى المواقف الشعبية لهذا الجيل في التظاهرة الغاضبة التي تلت الجريمة البشعة لمقتل الأغبري في صنعاء، وأدى الخروج الكثيف في مظاهرتين في 2020 إلى تعهد حوثي يهدئ غضب الشارع.
عند الفوز الأول ببطولة غرب آسيا ديسمبر2021 لمنتخب الناشئين اليمنيين، احتشد آلاف اليمنيين فجأة في الشوارع وفي أمانة العاصمة واحتفلوا في ميدان السبعين بشعارات الجمهورية والديمقراطية أي بمضمون كامل ومطابق كليا لشعارات فبراير السلمية. صحيح أن المظاهرة كانت بمناسبة رياضية، لكن مضمون المظاهرة والاحتفال وتمركزها في السبعين، وهتافاتها وراياتها لا علاقة لها بالرياضة إلا بالحد الأدنى، وإنما كانت تلك التظاهرة تعبيرا عن جيل جديد يؤمن بالجمهورية والديمقراطية والعمل السياسي.
في ذكرى ال26 من سبتمبر 2022 و 2023 فقد الحوثي سيطرته، وتعطلت قواه الأمنية والاستخبارية والعسكرية عن السيطرة على المجتمع الذي تظاهر بعشرات الآلاف في معظم المحافظات التي يسيطر عليها، وخاصة المدن الرئيسية مثل صنعاء والحديدة وإب، وأدى استفزاز الحوثي بإسقاط العلم الجمهوري في سبتمبر الماضي إلى خروج جيل جديد للمواجهة ورفض المساس بالدولة اليمنية أي الجمهورية والديمقراطية الذي أسسته نضالات اليمنيين على مدى قرن كامل من الزمان تقريبا.
اقراء أيضاً
كيف يهزم العصيان المدني الحوثيين؟
تهديد الحوثي ككلب بلا أنياب
كي لا يخطف الحوثي المبعوث الأممي