تمر الذكرى الثالثة عشر لفبراير هذا العام وسط صمت يلف أحداث مرحلة هامة من تاريخ اليمن المعاصر.
لا يبدو أن هناك ما يبرر هذا الصمت، وخاصة من قبل أولئك الذي جاءوا إلى مواقع السلطة برافعة هذا اليوم، أو أولئك الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً باسمه، سوى أن حالة من اللاوعي قد استجدت لتبث فكرة خاطئة، وهي أن ما وصل إليه حال البلاد كان بسبب هذا اليوم، وهي ما أخذ يفسح لها مساحة في الوعي السياسي العام.
الصمت، أياً كانت دوافعه أو أسبابه، ومنها بالطبع حالة الاحباط التي تملكت الكثيرين، لا يصب في خانة المراجعة الموضوعية التي لا نتوقف بها أمام هذا الحدث فحسب، ولكنها لا بد أن تشمل طائفة واسعة من الأحداث التي صنعت تاريخ اليمن المعاصر.
ولذلك لا يمكن أن تمر هذه المناسبة دون أن نعيد الحديث عنها بدوافع لا يقصد منها سوى التذكير بأنها محطة هامة في الحياة السياسية اليمنية، لا يمكن إغفال ما أحدثته من تغيرات، كان أهمها على الإطلاق تقديم ذلك النموذج من الفعل الثوري الذي حول الصراع إلى توافق وطني عبر الحوار.
كما أنه لا يمكن أن تمر ذكرى هذا الحدث دون مناقشة ما يوجه له من نقد غير موضوعي على أنه حلق خارج الحاجة الفعلية للبلاد، فيما تقول الوقائع انه سيظل حلقة هامة من حلقات التاريخ التي لم تصنعها الانقلابات ولا الغلبة، وإنما جاء ليصنع مساراً مختلفاً لبناء الدولة، وأن ما حدث بعد ذلك هو الفعل المضاد الذي تسلل إلى داخل الحدث.
يمكننا أن نجمل ما يمكن أن يقال في هذه المناسبة في النقاط التالية:
١- ضمت أطرافاً سياسية واجتماعية وشعبية متعددة الاتجاهات اتفقت على أهمية وضرورة التغيير السلمي للنظام السياسي المتوارث قيامه واستمراره على أساس الغلبة، إلى نظام سياسي بعقد اجتماعي يعترف بحق الشعب في تقرير اختياراته السياسية، وينشئ نظاماً للمواطنة، ويقيم العدالة الاجتماعية، ويطبق العدالة الانتقالية، ويحقق المساواة بين المواطنين أمام القانون.
٢ -لم يكن بالإمكان أن يجتمع كل هؤلاء (المختلفون في كل المراحل السياسية)، ويدعون للتغيير لو لم يكن الشباب قد تجاوزوا، في مرحلة التحضير، مأزق هذه الخلافات، وكونوا قوة دفع أخرجت الجميع من المأزق إلى الفعل السياسي الملتحم بحاجة البلاد إلى التغيير الذي كان قد تأسس في قلب البنية السياسية والاجتماعية للنظام القائم، وأصبح الجميع، بما في ذلك، أولئك الذين أسهموا في تأسيس هذا النظام، وكانوا جزءاً من مدخلاته ودافعوا عنه وعن مخرجاته على كافة الأصعدة، مقتنعين بأن التغيير، بأدوات سلمية مستندة على إرادة شعبية، غدا من الضرورات التي لا يجب تأجيلها وذلك لحماية الدولة من الانهيار .
٣- اتفق الجميع على أن يتوقف هذا التغيير عند حدود إصلاح النظام السياسي والاجتماعي بما يحافظ على الدولة ويمنع انهيارها .أي أنه إصلاح لأدوات وأسلوب وطرق إدارة الدولة التي كانت قد دخلت مرحلة اتسمت بالتناقض المخيف بين ما أصاب هذه الأدوات والوسائل من جمود من ناحية، وبين حاجة الدولة المستمر إلى ديناميات تمنع انهيارها من ناحية أخرى .
٤- كانت الدعوة إلى التغيير سلمية، ولذلك كان لا بد أن تأخذ بُعدها مما يتمسك به منتسبوها من دوافع، وفيما يقدمونه من حجج تبرر التغيير. لذلك كان لا بد أن تنتهي إلى حوار شامل بين أطراف الحياة السياسية على ما بينهم من اختلافات وخصومات وتناقضات في الرؤى السياسية والأيديولوجية، وذلك بهدف صياغة العقد الاجتماعي الذي تمثل في مخرجات الحوار الوطني قبل أن تتعرض في جانب منها لقدر من التعسف الناشئ عن اشتباك الحسابات الخاصة مع الهدف العام، وما تعرض له الحوار في مراحله الاخيرة من ضغوط لتمرير بعض الرؤى التي اشتبكت من حيث المبدأ مع ما مثله الحوار من منهج ثوري جديد في التوصل إلى تفاهمات وقواسم مشتركة فيما يتعلق بمستقبل النظام السياسي.
لقد عكست هذه الضغوط جانباً من مخزون التسلط الذي ظلت تحتفظ به مؤسسات الدولة المركزية، وهو ما يمكن النظر إليه على أنه أحد التحديات التي رافقت عملية الانتقال، والتي كان يجب التحوط من خطورة تحولها إلى عملية صدامية من خلال التعاطي معها بحذر وهدوء.
٥- كان علي صالح اكثر ذكاءً في التعاطي مع الحدث، فقد أدرك منذ اليوم الأول أن نظامه السياسي فقد معظم ديناميات الاستمرار، وكذا القدرة على مواجهة التحديات التي تراكمت على مدى عقود من حكمه، وأيقن أنه لا يستطيع أن يتورط في سفك الدم دفاعاً عن نظام انقسم على نفسه ولم يعد مؤهلاً لتحمل مسئولية سفك الدم نيابة عنه.
ولذلك فقد جنب نفسه وأسرته مغبة سفك الدم من أجل نظام فقد القدرة على البقاء، إلى هذا المستوى يمكن القول إن علي صالح كان موفقاً، بل وحكيماً، في خياراته بخصوص عدم المغالاة في سفك الدم، غير أن ما حدث بعد ذلك من تطورات تشي بأنه ربما أجل المواجهة حتى يكسب حليفاً يتحمل القسم الأكبر من مسئولية سفك الدم.
وهذه مسألة لا نريد أن نناقشها الآن، لا سيما وأن قدراً كبيراً من الغموض يكتنف هذا الجزئية من التاريخ وخاصة بعد ما أقدم عليه الحوثيون من مذبحة عام ٢٠١٧ في تكرار ممل للغدر والخيانة التي اتسمت بها التحالفات اليمنية في أكثر من حالة.
٦- مثلما كانت هناك معارضة للحوار من قبل بعض القوى التي كانت جزءاً من عملية التغيير، فإن قوى أخرى عملت على جر الحوار منذ اليوم الأول إلى مسارات تتناقض موضوعياً مع أهدافه وفقاً لحسابات سياسية لم تغادر مربع منهجها القديم، ومع ذلك تمكنت الأغلبية من الوصول بالحوار إلى نهايات معقولة بالحد الذي كان من الممكن أن يؤسس عقداً اجتماعياً لدولة يُحترم فيها الانسان باعتباره مالكاً للسلطة ومصدرها، ومقرراً لاختياراته السياسية.
٧ -ضم الحوار أحزاب السلطة والمعارضة وقوى واسعة من المجتمع المدني، رافقته اغتيالات، وتكفير، وتهديدات، ومشاحنات، ومؤامرات، لكنه صمد في وجه تلك التحديات، باعتباره الخيار الأكثر رشداً للانتقال الى مسار سياسي واجتماعي يضع البلاد على خارطة العالم المعاصر.
٨- ما حدث بعد ذلك يسجل في خانة الفعل المقاوم لعملية التغيير من مواقع مختلفة وبدوافع متنوعة، ولا يجب أن ينسب لعملية التغيير ذاتها، كما يدعي البعض اليوم ممن يذهبون في تحريضهم على الدعوة إلى التغيير بهدف تحميلها مسئولية ما آلت إليه أحوال البلاد، وكأنهم بذلك يبررون للحوثي الجريمة التي ارتكبها بحق البلاد، وخيانتهم للتوافق الوطني الذي مثل أرقى أشكال الفعل الثوري السلمي في تاريخ اليمن المعاصر.
٩ -إن الانتفاضات الشعبية التي تنتهي إلى حوار شامل لكل القوى السياسية والاجتماعية ، كتلك التي انتهت إليها فبراير، جديرة ببقاء صفحتها مفتوحة لاستيعاب حقيقة أن التفاهم والتعايش والقبول بالآخر هو الحل الذي يحتاجه اليمن لمواجهة كل ما تعرض له من كوارث في تاريخه، غير أن هذا المنهج الرشيد كان يجب أن تحميه قوة رشيدة.
تكمن المشكلة في أن كل الدعوات لإيجاد هذه القوة السياسية والقانونية والشعبية والعسكرية اصطدمت برفض الفكرة من قبل تحالفات المصالح الآنية يومذاك، والتي كانت تنطلق من تقييم مكانتها في المعادلة القائمة من واقع ما أسفرت عنه معطيات النظام القائم، وهو ما فوّت الفرصة لخلق هذه القوة المكافئة لعملية التغيير وجعلها مكشوفة على حلقات التآمر التي كانت تلوح في الأفق.
10- إن محاولات إغلاق صفحة هذه الانتفاضة الشعبية بتوظيف ما ألحقه الانقلاب الحوثي من كارثة باليمن، لن تكون سوى تبرير شقي للمتسبب الحقيقي في هذه الكارثة، ولمن يريد أن يتأكد من هذه الحقيقة عليه أن يعود إلى ما تضمنته وثيقة الحوار من قواعد ومبادئ لبناء الدولة، وهي التي استفزت قوى التخلف والظلام في اشعال الحرب على المستقبل الذي كان ينتظر اليمن بغض النظر عما حاولت ثقافة التسلط فرضه من خيارات.
١١- قبل أن نختتم هذه الملاحظات لا بد من التذكير بأن هذه العملية بمجملها قد خلصت إلى مستويين من المخرجات:
- أما الأول فهو مؤتمر الحوار والوثيقة التي خرج بها، والتي اشتملت على المبادئ العامة والأسس النظرية للدولة في جوانبها المختلفة. وهذه المخرجات جُمدت بسبب الانقلاب الحوثي، وإدخال البلد في هذه الحرب-الكارثة. أي أنها لم تختبر في الواقع لمعرفة مدى صحتها في بناء الدولة المنشودة.
- وأما الثاني فهو المنتج البشري ممن خرجوا من بطن الساحات وتوزعوا في مهام مختلفة في قيادة الدولة وغيرها من المجالات، وهؤلاء على الرغم من أنهم لا يمثلون سوى نخب محدودة، فإنهم بأدائهم وسلوكهم يعدون الاختبار الحقيقي لروح ومبدئية هذه العملية التاريخية. وسيحكم الناس (سلباً أو إيجاباً) على الحجج المساقة بشأن ضرورتها وقيمتها من خلال حكمهم على سلوك وأداء هذا المنتج البشري الذي وصل إلى مواقعه القيادية في مختلف المجالات برافعة فبراير.
١٢- إن المهمة الرئيسية في الوقت الراهن هي التصدي للتحدي الوجودي الذي يمثله النهج المغامر والتسلطي للحوثي والذي يقوم على جر اليمن الى المسار الخاطئ من مسارات التاريخ ليغدو مجرد مسرب تتدفق منه صواريخ ومسيرات إيران في معاركها الخارجية، ومعه تشكيل هوية سياسية وثقافية هجينة لبلد كان يشار إليه بأنه أصل العرب.
على أن يترك أمر هذه الانتفاضة ومخرجاتها النظرية إلى حين يصبح في إمكان اليمنيين تقييم مساراتهم بصورة تمكنهم من معرفة كل ما أحاط بهم من متغيرات، وتمكنهم في نفس الوقت من تصحيحها بثوابت تستند على ما تقدمه التجربة من حجج. أما منتجها البشري فلا يحتمل الانتظار.
ذلك أن منتسبيها وكل من جاء إلى السلطة برافعتها عليه أن يدرك جيداً أنه مخرج من مخرجاتها، وأن مكانتها في الوعي المجتمعي تتوقف على أدائه وسلوكه وتمثله لما نادت به من إصلاحات، خاصة وقد أفرزت التجربة قدراً من الظواهر التي بات معها الدفاع عن هذه العملية التاريخية يثير أسئلة كثيرة.
*من صفحة الكاتب على الفيس بوك
اقراء أيضاً
لا تراجع.. بل المزيد من فرض قيم وسيادة الدولة
البنك المركزي اليمني.. وقرار توسيع وترشيد المعركة
هل تعلمنا من الدرس؟!