لا أحد قديماً وحديثاً يجهل المكانة والموقع الاستراتيجي الذي يتمتع به البحر الأحمر في تاريخ شعوب هذه المنطقة والعالم والتي عاشت ومرت من خلال جغرافيا هذه المنطقة الحيوية والاستراتيجية، حيث يمثل ممرّاً مهماً للتجارة والتنقّل، تعاظمت أهميته مع شق قناة السويس وافتتاحها عام 1869.
ليس الصراع الذي تشهده منطقة البحر الأحمر اليوم مفاجئاً لأحد، وخصوصاً في بيئة مضطربة سياسياً، وحبلى بالأزمات والمشكلات المتوالدة والمتفجرة بين حين وآخر، تلك المشكلات التي تنتجها سياسات عدمية وعقيمة للمنظومة الدولية والإقليمية، وحتى للنخبة السياسية المحلية في هذه المنطقة، حيث لم تعِ هذه النخب بعد المكانة والدور الكبير الذي تحتله منطقتهم في المعادلة الدولية على الدوام.
يربط البحر الأحمر بين أهم ممرات الملاحة الدولية، وهما باب المندب وقناة السويس الرابطة بين القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتتقاسم شواطئ هذ البحر دول كبرى عدة ووازنة في المنطقة، مصر والسعودية والسودان واليمن وإريتريا وجيبوتي والأردن ودولة الكيان الصهيوني، عدا عن الصومال المطلّة على خليج عدن الواقع ضمن المعادلة الأمنية للبحر الأحمر. وتقع هذه الدول اليوم ضمن نطاق المصالح الاستراتيجية للمنظومة الدولية كلها.
ولكن من يتتبع نوعية السياسة الدولية، وخصوصاً التي اتخذتها القوى الدولية الكبرى في هذه المنطقة على مدى السنوات العشر الأخيرة على الأقل يدرك حجمي السطحية والضحالة اللذين يعاني منهما النخب السياسية الحاكمة في الغربين الأميركي والأوروبي، وخصوصاً في موقفها من ثورات الربيع العربي وصولاً حتى موقفها اليوم من العدوان الصهيوني على غزّة المحاصرة منذ الانقلاب على فوزها في أولى الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في فلسطين ما بعد أوسلو في مايو/ أيار 2006، وفازت فيها حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
يدرك جيداً المتابع اليوم للمأزق العالمي الذي تمرّ به القوى الدولية والإقليمية، جرّاء الوضع الملتهب في البحر الأحمر أن هذا الوضع هو نتاج طبيعي لسياسات واستراتيجيات عقيمة اتخذتها هذه القوى الدولية، وتتعارض مع منطق السياسة نفسها بمنعها الواسع، وهي حماية (وتحقيق) مصالح الجميع، شركاء على هذه الأرض، وأي اختلال لمنظور هذه السياسات هو اختلال لمنظومة المصالح كلها، وهي معادلة بسيطة وواضحة في منظور العلاقات الدولية الحديث، فالجميع اليوم متضرّرون مما يجري في البحر والأحمر، محلياً وإقليمياً ودولياً، بغضّ النظر عن الضرر الذي قد يلحق بإسرائيل، الهدف المُعلن من هذا الاستهداف من جماعة الحوثي، واشتراطهم وقف الحرب على غزّة لوقف استهداف خطوط الملاحة الدولية، وما يخفي هذا القرار من مصلحة إيرانية حوثية واضحة، تتمثل بقدرتهم على تهديد المشهد الإقليمي والدولي وإرباكه، وبحثهم من خلال هذا كله عن اعتراف دولي بنفوذهم على هذه المنطقة الحسّاسة.
ولهذا سيدرك جيداً المتابع للاستراتيجيات والسياسات الخليجية والأميركية والغربية عموماً، أن ما يجري اليوم في غزّة والبحر الأحمر هو نتاج طبيعي لتلك السياسات التي وقفت حجر عثرة أمام مطالبة الشعوب بحقوقها بحياة حرّة وكريمة، وخرجت تطالب بذلك، وقدّمت قرابين الشهداء في سبيل نيْل حقوقها، فوقف الغرب وحلفاؤه الإقليميون حجر عثرة، وموّلوا ثورات مضادّة صبت كلها في صالح المشروع الإيراني ومليشياته من العراق وسورية واليمن وليبيا واليوم في السودان وغيرها، للعبث بمعادلة الاستقرار التي كانت تمضي نحوها شعوب دول هذه المنطقة الحيوية.
لقد بذل الغرب وبعض دول الخليج أموالاً طائلة لإيقاف عجلة التحوّل السياسي الديمقراطي الشعبي في المنطقة في السنوات العشر الماضية، وها هم يدفعون ثمن هذه المواقف العدمية في مواجهة إرادات شعوب المنطقة ومطالبها، ففي اليمن دعموا مليشيات الحوثي وأخرجوها من كهوفها في أقصى شمال اليمن في صعدة، ودفعوا بها نحو إسقاط العاصمة صنعاء التي كانت على مشارف لحظة انتقال سياسي ديمقراطي فارق.
كانت اليمن على مقربة من صناعة لحظة تاريخية فارقة رسمتها من خلال مخرجات الحوار الوطني والدستور الجديد وخريطة الانتقال، فكانت النتائج، كما شوهدت في عشر سنوات مضت، حروباً طاحنة كشفت كم هي هذه الدول هشّة وبلا أي رؤى سياسية استراتيجية، وبلا أي صلابة وتماسك استراتيجي، ما جعلها عرضة للهزيمة والسقوط في أي لحظة لا سمح الله، بفعل عدمية صناع القرار فيها، بل وربما غياب مثل قضايا استراتيجية وجودية كهذه في مخيالهم السياسي.
لقد تواطأ الجميع في الإقليم والعالم ضدّ الدولة الوطنية اليمنية، وأفشلوا لحظة انتقال سياسي ذهبية، صنعها اليمنيون بأنفسهم، وها هو المشهد اليوم يتجلّى للجميع، كيف دفع الجميع ثمن ذلك التواطؤ؛ ولا يزالون يدفعون الثمن غالياً، في تواطؤهم مع مليشيات طائفية لا ترى إلا ما تمليه عليها تصوّراتها الدوغمائية والعدمية، عدا عن راعيها الإقليمي.
هذا المسار من السياسات نفسه الذي رأيناه ثلاثة عقود؛ من خلال موقف المجتمع الدولي، والعربي تحديداً، من فكرة انهيار الدولة في الصومال وتقسيم جغرافيتها، وكيف أدار العالم للصوماليين ظهره، ولم يُعرهم أي انتباه، وهو ما ولّد أزمات كبيرة كلفت هذا العالم مليارات الدولارات لحماية خطوط الملاحة الدولية بإنشاء قواعد عسكرية عالية النفقات كان يمكن أن يذهب قليل من تلك المليارات للصوماليين، من أجل لملمة دولتهم واستعادة عافيتها، ولكن الأنانية والعدمية هي من تدير سياسات بمسارات كارثية كهذه، تتجلى فصولها اليوم في الحالة الصومالية التي يُدفع بها دفعاً إلى حرب طاحنة مع جارتها إثيوبيا، التي تحاول الوصول إلى المياه الدافئة على خليج عدن، وعلى حساب سيادة الدولة الصومالية الفيدرالية.
تتجلى اليوم أخطر فصول هذا المسار العقيم من مأزق السياسة الإقليمي والعالمي، في قضية القضايا كلها اليوم، وهي قضية غزّة المحاصرة والتي يُباد أهلها، فقليل من المنطق والعقل كان يقتضي إيقاف جرائم هذه الإبادة الصهيونية في حقّ الشعب الفلسطيني، وتجنّب كل هذا التصعيد الذي لا يخدم سوى مشعلي حرائق الحروب الذين يروْن في الحروب مخرجاً لمأزقهم السياسي، وهروباً للبحث عن شرعية وجود يفتقدونها في مجتمعاتهم، فيهربون إلى قضايا خارجية يقمعون بها الداخل ويخرسونه.
استعادة أمن البحر الأحمر اليوم مرهونة تماماً ومرتبطة بمساريْن من المعالجات: الأول وقف الحرب على غزّة فوراً، ومن دون شروط، والثاني دعم اليمنيين لاستعادة دولتهم التي كانت ضامنة لأمن طرق الملاحة الدولية وسلامتها عقوداً، فضلاً عن أمن دول الإقليم واستقرارها، وغير هذين المسارين، سيظل العالم في حالة نزيف أخلاقي واقتصادي وسياسي وقيمي كبير، سيقود العالم كله إلى أزمةٍ عالميةٍ كبرى لا يمكن تصوّر تداعياتها.
ختاماً، عدمية السياسة الغربية وحلفاؤها وانحطاطها اليوم هي من تقف وراء كل هذه الحروب والحرائق، التي تعصف بالعالم وشعوب المنطقة تحديداً الذين لا يمكن أن يروْا مصالحهم؛ إلا من خلال نافذة المصالح الغربية غير المشروعة في منطقتنا العربية تحديداً، تلك المصالح التي يجري تحقيقها ضداً لمصالح شعوب المنطقة، وخصماً من حقوقهم وكرامتهم وإنسانيتهم. ولهذا كله، يدفع الجميع اليوم وسيدفعون غداً ثمن هذه العدمية السياسية التي تتعالى على مصالح شعوب المنطقة وحقوق إنسانها وكرامته وإرادته وحريته.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
غير المنظور في الأزمة اليمنيّة
التنوير المجني عليه عربياً
إيران وإسرائيل وشفرة العلاقة