ممكن أن تُصغوا لنتائج استطلاع الرأي الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (مقره رام الله) والذي يديره خليل الشقاقي، المتفق على أنه باحث له صدقية علمية، ويموّل من جهات غربية تعتبر المقاومة إرهابا. وممكن أيضا التخفيف من إنسانيتكم، زائفة أم صادقة، وترون كيف ينظر أهل التضحيات إلى معاناتهم.
لا يتوجّه هذا الكلام هنا إلى الصهاينة العرب الذين يجدون في هول الكارثة مدخلا للطعن في المقاومة، وترويج المحتل الرحيم. وهؤلاء لا يهمهم لو أبيدت غزّة، ما يشغلهم خسائر الصهاينة في الأنفس وفي الاقتصاد. الكلام لمن ينافقون الغرب على حساب قضيتهم، إنهم لا سلفيو منظمّات "الإن جئ أوز" الذين لا يخرجون على نصّها. وهؤلاء هم ذاتهم الذين كانوا يطعنون في ظهر مقاتلي حركة حماس الذين كانوا مشغولين منهمكين في تصنيع الصواريخ والمسيّرات وحفر الأنفاق والتدريب والرباط على مدار الساعة، وذلك لأن الحركة لا تدرّس الحقوق الجندرية، ولا تعطي المثليين حقوقهم.
هؤلاء حسنو النية، يريدون أن يظهر شعبهم بشكلٍ لائق أمام الأجانب، شعبا محبّا لثقافة الحياة، يتطلع إلى نيل حقوقه التاريخية عبر الاشتباك التفاوضي، وورشات العمل، ومناظرات تلفزيونية باللغة الإنكليزية، وأفلام تشارك في المهرجانات، وممكن بوقفات إيقاد شموع على أرواح الشهداء!
حصل يحيى السنوار، في الاستطلاع، على أعلى نسبة رضا في قطاع غزّة والضفة الغربية. أما أبو مازن، الحكيم الذي يشكل أيقونة أصحاب النيّات الحسنة، والأفعال المبتذلة، فقد طالب 90% برحيله، ومن المفروض أن يرحل معه من يؤمنون بخطّه المعادي للمقاومة المسلحة. سألنا عن رضا الجمهور عن الدور الذي لعبته خلال الحرب جهاتٌ فاعلة فلسطينية وعربية/ إقليمية ودولية:
في الجانب الفلسطيني، كانت أعلى نسبة من الرضا تعود لدور "حماس" (72٪؛ 85% في الضفة الغربية و52٪ في القطاع)، يتبعها يحيى السنوار (69٪؛ 81٪ في الضفة الغربية و52٪ في قطاع غزة)، وإسماعيل هنيّة (51٪؛ 57٪ في الضفة الغربية و43٪ في القطاع). حركة فتح (22٪؛ 23٪ في الضفة الغربية و21٪ في القطاع)، السلطة الفلسطينية (14٪؛ 10٪ في الضفة الغربية و21٪ في القطاع)، محمود عبّاس (11٪؛ 7٪ في الضفة الغربية و17٪ في القطاع)، ومحمد اشتية (10٪؛ 6% في الضفة الغربية و16٪ في القطاع).
تهبط النسبة في غزّة، نظرا إلى حجم الخسائر التي مسّت كل الناس بشكل مباشر؛ قتلا ودمارا وتشريدا .. لكنها لم ترتفع لصالح عبّاس الذي تدنت نسبته في غزّة إلى 17% مقابل 52% للسنوار الذي ارتفع الرضا عنه في الضفة إلى 81% مقابل انخفاضه عن عبّاس إلى 7%. وهذه نسبة الرضا بشكل عام، أما قرار الحرب والهجوم في 7 أكتوبر فقالت الغالبية العظمى (81٪؛ 89٪ في الضفة الغربية و69٪ في قطاع غزّة) إن ذلك الهجوم جاء "ردّا على اعتداءات المستوطنين على المسجد الأقصى وعلى المواطنين الفلسطينيين ولإطلاق سراح الأسرى من السجون الإسرائيلية" فيما اعتقدت نسبة من 14٪ فقط (5٪ في الضفة و27٪ في القطاع) أنها مؤامرة إيرانية.
سُئل المستطلعون عن آرائهم في مدى صحة قرار "حماس" شن هجوم 7 أكتوبر، بالنظر إلى نتائجه. قالت الغالبية العظمى (72٪؛ 82٪ في الضفة الغربية و57٪ في قطاع غزّة) إنه قرار صحيح، وقالت نسبة من 22٪ (12٪ في الضفة الغربية و37٪ في القطاع) إنه غير صحيح.
ترى أكثرية هؤلاء الذين فقدوا أطفالهم ودورهم وكل شيء القرار صائبا. يعني لو صوّت مجلس شورى "حماس" على القرار لما حصل على أعلى من هذه النسبة. أما أنت الذي تعاني عن بعد (لا أحبّ عبارة تجلس تحت المكيفات في الشتاء، وأنا عادة ما أجلس تحتها، وجلوسك تحتها لا يمنعك من قول رأيك) فلماذا تزاود عليهم؟ لا يمكن تخيّل حجم المعاناة الإنسانية في غزّة التي لم ينج منها أحد، فمن عاش شاهد الموت بعينه يخطف أعزّ الناس على قلبه. لم تكن تلك المعاناة بسبب كارثة طبيعية، ولا بتقصيرٍ من مسؤول، والأهم ليست حماقة غير محسوبة. هي أقصى درجة التضحية اختيارا لا اضطرارا، أخذتها قيادةٌ لا يشكّك أبدا في شرعيتها وجدارتها، فهي قيادة شعب تحت الاحتلال يقاتل منذ قرن لنيل حقوقه الطبيعية، لكل إنسان منه حقّ تقرير المصير على أرضه، وليست حيوانا تُحدّد له مساحة الحظيرة وكمية العلف.
تلك القيادة التي قرّرت، ذاقت طعم الموت والسجن، ومن يدقّق في سير أصحاب القرار (محمّد الضيف ويحيى السنوار ومروان عيسى وأحمد الغندور ...) يجد أنهم فقدوا الابن والأم والأب والزوج والأخ، في عمليات استهدافهم. نجوا من الموت مرّاتٍ، وعانوا مع شعبهم وجرّبوا كل أشكال النضال، عملا سياسيا وانتخابات طلابية ونقابيّة وتشريعية، ومظاهرات وعملا مسلحا بأشكاله. وكان مما جرّب مسيرات العودة السلمية التي استشهد فيها أكثر من ألف.
تفيد نتائج الاستطلاع أيضا بأن الأغلبية تعتقد أن إسرائيل لن تنجح في القضاء على حركة حماس، أو في إحداث نكبة ثانية للفلسطينيين، أو في طرد سكّان قطاع غزّة إلى خارجه. بل إن أغلبية كبيرة تعتقد أن "حماس" ستخرج منتصرة من هذه الحرب. بل وتعتقد أن الحركة ستعود إلى السيطرة على القطاع. وتشير النتائج أيضا إلى معارضة كبيرة لنشر قوة أمنية عربية في قطاع غزّة، حتى لو كان الهدف منها تقديم الدعم للسلطة الفلسطينية. بل تعارض الأغلبية أيضاً دورا للدول العربية في توفير الخدمات للقطاع، لكن هذه الأغلبية أقل بكثير من التي تعارض الوجود الأمني العربي.
تهبط بشكل كبير نسبة تأييد الرئيس محمود عباس وحركة فتح، وتهبط أيضا نسبة الثقة بالسلطة الفلسطينية بمجملها، بل وتزداد نسبة المطالبة بحلها لتقارب 60٪. كما ترتفع نسبة المطالبة باستقالة الرئيس عباس لتبلغ حوالي 90%، بل وأكثر من ذلك في الضفة الغربية. ترتفع نسبة تأييد العمل المسلح عشر درجات مئوية مقارنة بالوضع قبل ثلاثة أشهر، حيث تقول نسبة تزيد عن 60% إنه الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال، بل وترتفع هذه النسبة في الضفة الغربية لتقترب من 70%. كما تعتقد الأغلبية في الضفة الغربية أن تشكيل مجموعات مسلحة في البلدات المعرّضة لاعتداءات المستوطنين هي الطريق الأكثر نجاعة في محاربة إرهاب المستوطنين ضد بلدات وقرى في الضفة الغربية.
في النتيجة، لا تخاض حروب التحرير عبر الانتخابات واستطلاعات الرأي، في الثورات الفلسطينية عبر قرن كانت القيادات الطليعية تبادر في المقاومة ويتبعها الشعب، لم ينتخب أحد ياسر عرفات، تبوأ قيادة منظمّة التحرير بعد معركة الكرامة، وتشكيلة المنظمّة تعتمد أصلا على حجم الكفاح المسلح لكل فصيل، وهذه المساهمة هي اليوم بأعلى نسبة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي ومن يليهم من فصائل. وفوق ذلك، تحصل "جماس" على الأكثرية في الانتخابات واستطلاعات الرأي. المهم أن على أصحاب النيات الحسنة، فضلا عن الشريرة، أن يدرسوا تاريخ حركات التحرّر ويقولوا لنا عن أي حركة منها أجرت انتخاباتٍ أو استطلاع رأي لشعبها قبل شن هجوم؟
ليست قيادات المقاومة مقدّسة، لكنها قيادات تاريخيّة، ضاقت بالمأزق الذي حشرت فيه قضية فلسطين، وغامرت بكل شيء لعلها تضع شعبها على طريق التحرير من خلال حرب تحرير شعبية تستنزف العدو وتفتح عليه جبهاتٍ لا يتوقعها. وهي أعدّت لمواجهةٍ أبهرت العدو والعالم، في ظل حصار مطبق منذ عقد ونصف. هل ارتكبت أخطاء في أثناء الحرب؟ مؤكّد هم بشر، لكنها ليست بقرار، بقدر ما هي أخطاء وتجاوزات فردية.
ظهر ذلك في إقدام العدو على اغتيال أسراه الثلاثة، حافظ المقاتلون على حياة الأسرى حتى الرمق الأخير وبعد 70 يوما من القتال ، وكانوا يستطيعون التخلّص منهم، لكن يبدو إنهم بعد أن استشهدوا أو أصيبوا إصابات بالغة أو نفدت ذخيرتهم اعتقدوا أن أفضل طريقة لحماية الأسرى الثلاثة إطلاق سراحهم. في المقابل، تصرف جيش العدوان بأخلاقه، عزّل عرّاة من نصفهم الأعلى يلوّحون بأعلام بيضاء يستغيثون يُردّ عليهم بالرصاص حتى الموت ومن دون إسعافهم. هذه جريمة حرب مكتملة.
وهكذا قتل أكثر من 20 ألفا! إذا كان تعاملهم هكذا مع العزّل، فكيف يتعاملون مع مقاتلي كتائب القسّام؟ هل يسعفون جرحاهم أو يحافظون على حياتهم إن نفدت ذخيرتهم؟ إنهم يحافظون على حياة الأسرى الوهميين الذين يأخذونهم عشوائيا من مدنيين لاستعراضهم بغباء أمام الكاميرات. السقوط الأخلاقي ليس لجيش العدوان فقط، بل للإعلام العالمي، والمنافقين من أصحاب النيات الحسنة الذين يعملون بجهل أو علم تحت إمرة جهاز الدعاية في الجيش الإسرائيلي. ... حسنا كيف رأى الجمهور تجاوزات المقاومة؟
عُرضت على الجمهور قائمة بأفعال أو تدابير، وسئل عما إذا كان القانون الدولي برأيه يسمح بها في أثناء الحرب. قالت الأغلبية (84٪) إنه يسمح بأسر الجنود، وقالت نسبة من 76٪ إنه يسمح بقتال الجنود في قواعدهم العسكرية. لكن الأغلبية العظمى (78٪) قالت إنه لا يسمح بشن هجمات على المدنيين، أو قتل النساء والأطفال في منازلهم. وقال 77٪ إنه لا يسمح بقصف المستشفيات، وقال 76٪ إنه لا يسمح بقطع الكهرباء والماء عن السكان المدنيين.
وقال 52٪ إنه لا يسمح بأخذ المدنيين أسرى حرب. فيما تقول نسبة 95٪ إن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب خلال الحرب الراهنة، يعتقد 10٪ فقط أن "حماس"، هي الأخرى، ارتكبت جرائم كهذه. نسبة من 4٪ فقط تعتقد أن إسرائيل لم ترتكب جرائم كهذه؛ ونسبة من 89٪ تعتقد أن "حماس" لم ترتكب جرائم حرب خلال الحرب الراهنة. ويقول ٪85 إنهم لم يشاهدوا أشرطة فيديو عرضتها وسائل إعلام عالمية تظهر أفعالا أو فظائع ارتكبها أفراد من "حماس" ضد مدنيين إسرائيليين في 7 أكتوبر، مثل قتل النساء والأطفال في بيوتهم. 14٪ فقط (7٪ في الضفة الغربية و25٪ في قطاع غزّة) شاهدوا هذه الأشرطة.
وعند السؤال عما إذا ارتكبت "حماس" هذه الفظائع، قالت الغالبية العظمى إنها لم ترتكبها، و7٪ فقط (1٪ في الضفة الغربية و16٪ في قطاع غزّة) قالوا إنها ارتكبتها.
(العربي الجديد)
اقراء أيضاً
نعم لنموذج بيروت... هروب الاحتلال وصعود المقاومة
شيرين أبو عاقلة
الخطر الحوثي لا يهدّد الإمارات وحدها