مرت قبل أيام ذكرى الوحدة الثالثة والثلاثين للجمهورية اليمنية، واليمن يعاني تمزقا شديدا على عدة مستويات، صعدة منفصلة عن صنعاء، وكلاهما تحت سيطرة الحوثي، وتعز مقسمة إلى ثلاثة أقسام منفصلة، ومعظم المحافظات كذلك ممزقة، بما فيها مأرب، وجنوبي اليمن.
لم تمتلك أي قوة من القوى المهيمنة الثلاث أي سيطرة كاملة على المناطق التي تحت سيطرتها، في ظل مشروع انفصالي عقائدي إيراني شمالا هو الأخطر على الأرض، الذي يقوض الجمهورية والديمقراطية والوحدة والدولة الحديثة التي بنتها الجمهورية خلال عقود، ويقود إلى عزلة شاملة للسكان تحت مناطق سيطرتها، مع ما يترتب على ذلك من فقر وجوع وغلاء وتضخم وهيمنة بني هاشم وخلفهم إيران على مقاليد الأمور بأسوأ الصور.
جنوبا، يواصل الانتقالي الجنوبي بفعالية وسرعة خطواته الهادفة إلى تحقيق الانفصال بحدود جمهورية اليمن الديمقراطية، ولكن بغير مبادئها وأهدافها، بينما تعجز القوى الأخرى في الحكومة عن بلورة مشروع حقيقي للمقاومة لتحرير صنعاء وبناء الجمهورية مجددا والحفاظ على الوحدة بالديمقراطية.
من المهم التذكير بمجموعة من الحقائق، أن المشاريع الانفصالية شمالا وجنوبا، لا تستند إلى أي مشروعية دستورية وقانونية، وإذا كان من المستحيل بقاء مليشيا الحوثي على قيد الحياة، مهما امتلكت من قوة عسكرية واقتصادية ودينية، فإن الواجب على القوى الأخرى التفكير جديا بالأزمة التي تمزق البلاد اليوم.
الحقيقة الغائبة أن الديمقراطية كانت ملازمة الوحدة، والانقلاب عليها في 93، قاد إلى حرب 94، ولم تتمكن الحكومة المنتصرة في الحرب من استعادة الديمقراطية، بل واصلت بغيها، حتى كادت تقوض الجمهورية لولا ثورة 2011.
خرج الثوار في 2011 بهدف بناء الديمقراطية مجددا وتجسيدها فعليا في مؤسسات الدولة، لكن القوى التي حكمت مجددا في الفترة الانتقالية، انقلبت على الديمقراطية، ودخلت في تقاسم ومحاصصات وحوارات تهدف للالتفاف على الديمقراطية حتى سقطت الجمهورية كلها بيد قوة غير ديمقراطية أشد من الحكومة قوة وتمزقت البلاد التي بنيت على نضالات قرن من الزمان قام بها رجال الحركة الوطنية.
وبنظرة سريعة على بيانات جميع القوى اليوم بما فيها المجلس الانتقالي والحكومة والأحزاب السياسية، بمناسبة ذكرى الوحدة، غاب مفهوم الديمقراطية مجددا، وكأن سنوات الحرب الماضية وفشل الدولة في العقود السابقة لم يكفي ليتخلى كل عن نهجه.
لكي تكون مستبدا، تتطلب مجموعة من العوامل لا تتوفر في اليمن بأي حال من الأحوال، أهمها الثروة المالية التي لا تنتج من السوق والعمل، أي الريع، واليمن أفقر البلدان المنتجة للنفط والغاز، وليس فيها ما يكفي لتقيم حكما استبداديا من أي نوع، وقد انهار حكم علي عبد الله صالح بالدرجة الأولى نتيجة انخفاض إنتاج النفط وصادراته، وتفاقمت المشاكل ابتداء منذ 2004 أي بعد تناقص إنتاج النفط.
وبينما يبني الانتقالي حاليا قوة عسكرية قوية للانفصال جنوبا، وقد صار فعليا يسيطر من عدن حتى حضرموت، وصار يهيمن على حكومة الجمهورية اليمنية وحاكمها الفعلي، فإنه يقف عاجزا أمام الخدمات المالية بما فيها كهرباء عدن والأزمات الاقتصادية، والكفاءة في الإدارة، بل يتورط كثير من قياداته في الدولة في منظومة الفساد الناتجة عن الاستبداد.
أدت ثورة سبتمبر إلى بناء الجمهورية، وأدت ثورة أكتوبر إلى الاستقلال، وحققت الثورتان معا أفضل وضع لليمن في القرن الماضي، لكنهما فشلتا فشلا ذريعا في العيش بسلام بدون حروب، لقلة الموارد، وغياب الديمقراطية.
الحكومة الفعالة في البلدان عديمة الموارد الطبيعية، لا يمكن أن تكون إلا ديمقراطية، وبغير الديمقراطية الشاملة التي تؤسس في الدستور والقانون وتنعكس على المؤسسات وتنمي الاقتصاد وتضمن المشاركة الفعالة لجميع المواطنين، بدلا عن الفئات القوية، لا يمكن أن تستقر أي دولة مهما كانت.
حتى الدول النفطية ذات الطبيعة الاستبدادية التي استمدت شرعيتها من الثورة والتحرر كالعراق وليبيا والجزائر فشلت فشلا ذريعا في ضمان الاستقرار ونرى كيف أن العراق والجزائر وليبيا في أوضاع مزرية بجميع الأحوال رغم أن ثرواتها النفطية تقارب ثروات الخليج.
لم يقم الخليج على أساس الحركة الوطنية والاستقلال، بل له أساسات أخرى، ومكنته تلك الأساسات، مع الثروة النفطية، والإدارة الكفؤة الفعالة في تحقيق استقرار هائل طيلة نصف القرن الماضي.
ما أود قوله إن أي مشروع في اليمن من أي كان، بأي حجم، لا قرار له ولا مكان، ما لم تكن الديمقراطية تتجسد فيه منذ أول يوم لعمله، وينص عليه معظم بنوده.
تولد الفرصة الحالية للقوى المناهضة للحوثي بما فيها الانتقالي وبقية القوى اليمنية فرصة حقيقية للإيمان بالديمقراطية والعمل بها، وتجسيدها في سائر عملها سواء في منظماتها الخاصة، أو في عملها في إطار الحكومة، أو حتى في منظمات المجتمع المدني، وكل مظاهر الحياة.
اقراء أيضاً
كيف يهزم العصيان المدني الحوثيين؟
تهديد الحوثي ككلب بلا أنياب
كي لا يخطف الحوثي المبعوث الأممي