دار، أخيرا، جدلٌ كبيرُ في الأوساط الثقافية والفكرية والسياسية اليمنية، بعد صدور كتاب أحمد الدغشي، حول ما سماها ظاهرة القومية اليمنية (أقيال)، وهو ربما أول كتاب يصدرُ في خضم هذه الجدال الدائر منذ سنوات، ولكن زاده، أخيرا، احتداماً صدور هذا الكتاب، الذي مثل فرصة لعودة الجدل واشتداده، بعد أن كاد يخمدُ وربما يتلاشى.
يمثل كتاب "ظاهرة القومية اليمنية.. أقيال، دراسة تقويمية" نقطة مهمة في إطار الجدل الدائر، مع كل المآخذ على الكتاب وفكرته ونقاشاته، والتي كانت ردّة فعل مستعجلة، ضخّمت من فكرة "الأقيال" أكثر مما كان ينبغي لها أن تقدّم رؤية وتصورا دقيقين عن الأمر، حتى يمكن قراءة هذه الفكرة قراءة دقيقة وعلمية، تساعد في فهمها وتفكيكها والتعاطي معها. ولكن للأسف أسهم الكتاب في إعادة تدوير النقاش واستدامته، من دون أن يقدم حلاً أو تصوّراً لكيفية فهم الظاهرة وكيفية التعاطي معها، عدا عن هذا الاستعجال اللافت في حجم الكتاب، والذي حاول مقاربة ما سماها ظاهرة بغير أدوات دراسة الظواهر الاجتماعية، وهي المناهج الاجتماعية التي تقارب الظاهرة من واقعها بالملاحظة والاستقراء والاستنتاج، وإنما حاول المؤلف مقاربة الأمر بأدواتٍ ومنهجيةٍ لا تمت لدراسة الظواهر، وهو المنهج الوصفي التاريخي الذي قاد المؤلف إلى الاشتباك مع التاريخ ورموزه ومحاولة إقحامهم واستنطاقهم للحديث في الحاضر.
ومع ذلك، تُحسب للدغشي محاولته الجريئة أن يقدّم جهداً مشكوراً في نقاش قائم، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه، ما يعني أننا سنشهد مزيداً من النقاشات والجدل في هذه المشكلة، والتي لم يصل الحديث عنها بعد إلى مرحلة الحديث عن ظاهرة مكتملة الأركان، لأنها لا تزال مجرّد أصوات قليلة متنافرة ومتناقضة ومصارعة ومحصورة في إطار وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تصل بعد إلى مرحلة أن تكون ظاهرة وواقعا مشاهدا ومدركا على مستوى الجماعة ولا الخطاب أو التصور والوجود. ولكننا بتنا ندرك جيداً اليوم أن طول أمد الحرب في اليمن، وطبيعتها وسرديتها ودينامياتها، ستنتج حتماً أدواتها وجماعاتها باستمرار، وأن عملية الفرز والتفتيت والتفكيك للمجتمع وهويته الوطنية مستمرّة (الهوية الوطنية التي بناها اليمنيون على مدى أكثر من نصف قرن) على كل المستويات، هدفا جوهريا لهذه الحرب، وأن هذه الحرب ستنتج تشوّهاتها على كل المستويات، وأخطرها تشوّهات الذات والهٌوية الوطنية المهدّدة بالانقسام والتشظّي، الذي ستُنتجه هذه الحرب الدائرة، والتي تتسم بأحد أخطر أبعادها، وهو البعد الطائفي بوصفه خطابا قائما يصدره ويُعلي منه خطاب جماعة الحوثي، ويجد بعض صداه في الطرف المقابل لها من بين بعض اليمنيين.
ونتيجة لكل هذه الأوضاع التي يمرّ بها ويعيشها اليمن اليوم، ظهرت، أخيرا، موجة هوياتية نقيضة لهوية جماعة الحوثي الطائفية، وتطلق على نفسها حراك أو حركة القومية اليمنية الأقيال، والأقيال مصطلحٌ كان يُطلق قديماً على الزعامات القبلية والاجتماعية في اليمن القديم، إبّان الدويلات اليمنية القديمة، كالسبئية والحميرية تحديداً وغيرهما. أما اليوم فهي تمثل وتعبرُ عن ما تُسمى جماعة القومية اليمنية الرافضين للوضع الراهن، والذين يرون أن سبب هذه الحرب هو فكرة الهاشمية السياسية خصوصاً، والزيدية السياسية عموماً.
ويختزل أصحاب هذه الفكرة أن الحل كامنٌ في مواجهة مشروع الإمامة الحوثية، بالعودة إلى الجذور التاريخية لليمن القديم واستلهام رموزه وأفكاره، وكل ما يمتّ لتلك المرحلة من أفكار. وهذا التوجه تسطيح شديد لفكرة المعركة من أساسها، وذلك باختزال فكرة الحل في العودة إلى الماضي فقط، وهي فكرةٌ بدائية لا تختلفُ كثيراً في بدائيّتها عن فكرة الحوثي، مع فارق كهنوتية الفكرة الحوثية، ودمويتها وكونها اليوم أصبحت واقعاً موجوداً وقائماً لا مجرّد فكرة مٌتخيلة، كما هو حال أدعياء هُوية الأقيال وتخيّلهم هويتهم.
أما ما يتعلق بالأقيال، فهي لا تزال خراطيش أفكارٍ متناثرةٍ هنا وهناك، ولم تنتظم اليوم في كيان وتيار يمني عريض له وجوده الفعلي على الأرض، واقتصار حضور هذه الظاهرة في وسائل التواصل وعدم تجسّدها فكرة متماسكةً فكرياً ولا تصوّرا واضحا ولا واقعا قائما أيضا، لأسباب كثيرة، في مقدمتها عدم وضوح الفكرة واجترارها تصوّرات تاريخية غير دقيقة، ولا تستندُ إلى فكرة ثقافية متماسكة وجامعة لكل اليمنيين، عدا عن تكريسها فكرة التصنيف العرقي للناس بين قحاطنة وعدنانيين، وقيسية ويمانية، ومثل هذا المنطق اليوم فكرة بدائية لا يمكنها أن تصمُد أمام موجة التحوّلات السياسية الحداثية الهائلة في الاجتماع السياسي المعاصر والحديث، فيما يعلق بفكرة الدولة والمواطنة والحقوق والحريات.
شيء آخر، في سياق سطحية بعض أفكار الأقيال، هو الحديث عن أن اليمنية قومية مستقلة من دون العرب، وهذه، في حد ذاتها، نكتة مضحكة وساذجة في الوقت نفسه، فكيف يتسنّى الحديث عن قومية يمنية بمعزل عن أمة العرب من المحيط إلى الخليج، الأمة التي تفتخر بأن أصولها يمنية قحطانية، ليأتي ساذجون ليقولوا لنا إن اليمنية قومية مستقلة بذاتها، والقومية أساسها العرق واللغة، وهو ما يجمع اليمنيين مع كل العرب، بمن فيهم حتى البربر والأمازيغ الذين تحكي بعض السرديات عن أصولهم اليمنية.
جانب آخر، فيما يتعلق بحراك الأقيال، هو حالة التوظيف السياسي الواضح لهذه الظاهرة، والتي اختطفتها ووظفتها أطرافٌ ترى أنه يمكنها من خلال هذا الحراك أن تعود مجدّدا إلى صدارة المشهد السياسي اليمني، وعدم إدراك مخاطر مثل هذا التوجه، إذا استمرّ في تقديم خطاب عاطفي ولا عقلاني كما هو الحال الآن، وهو ما أضعف الفكرة وحوّلها لورقة يتم حرقها قبل نضجها واكتمالها.
ثمّة مآخذ عديدة يمكن أن يأخذها الناس على من يقدّمون أنفسهم ممثلين لتيار الأقيال، وهو ذلك الخطاب المتعالي على مقدّسات اليمنيين، والحديث أن الإسلام يمثل إعاقة حضارية لليمن، وأن اليمن اليوم ليست في حاجة لإسلامٍ يمثله الحوثي، وربط الحوثي ممثلا للإسلام، وهو ربط سطحي وساذج أيضاً، لا يستند إلى أي منطق علمي أو حتى براغماتي. ويضاعف كل هذا العبث من حجم التعقيدات والمشكلات، ولا يقدّم حلولا للمشهد، بقدر ما يدفع المشهد إلى مزيد من السيولة في إنتاج مشكلاتٍ، المجتمع اليمني في غنىً عنها، ومعركته اليوم تتطلبُ خطاباً سياسياً مقدّماً لا يكون انعكاساً لخطاب الحوثي، وإنما خطابٌ بأفق وأدوات ومفردات جديدة، تستند إلى أفكار وطنية جوهرية وجاذبة.
ولا توجد فكرة جاذبة اليوم كفكرة الوطنية اليمنية وخطابها السياسي الوطني، وهي فكرة متماسكة، ولا يُحتاج لها أكثر من الإيمان بها وتقديمها بشكل علمي منطقي ومتماسك، وعدم الخلط بين المنطق العلمي والأوهام الماضوية، التي لا تستند سوى إلى الخيالات المزعومة، في الحديث عن فرادة ونقاء عرقي، هذه الفكرة الخرافية والساذجة التي لا وجود لها عملياً على أرض الواقع، وإنما في مخيال الحمقى والمغفلين.
عدا عن ذلك، لم يعد اليوم لكل حيثيات تلك اللحظة الزمنية الغابرة والعتيقة أي وجود في واقع اليوم، خصوصا في ظل التحولات الكبرى في كل ما يتعلق بالدين والدولة وشكلها ومضمونها، وحقوقها وواجباتها، فالدولة اليوم لا يمكن قيامها على أساس عرقي قائم على فكرة النقاء العرقي، أو شرعية مذهبية أو طائفية، فالدولة الوطنية اليوم ناظم وراع لكل الناس بمختلف إنتماءاتهم الدينية والعرقية والمذهبية، وبالتالي، ليس من الصواب اليوم ولا من المنطق ولا حتى من العلم، الحديث عن قيام تيارات وأحزاب وتأسيسها على أساس عرقي أو طائفي أو ديني، فهذا ليس ارتدادا عن الإسلام فحسب، بل هو ارتداد عن فكرة الدولة الوطنية الحديثة برمتها، وهذا ما يؤسّس لمأزق سياسي أكبر من الحل الذي يُفترض تقديمه من خلال هذه الفكرة، فالدولة اليوم غير الدولة بالأمس، وهي في حالة تطوّر مستمر. ولهذا دولة اليوم هي لكل مواطنيها، بمختلف أديانهم وأعراقهم ومذاهبهم وطوائفهم، فالدولة هنا هي جهاز لإدارة كل هذا التنوع والحفاظ عليه.
أزمة اليوم غير أزمة الأمس، وحلول اليوم غير حلول الأمس، ما نحتاجه اليوم، نحن اليمنيين، هو دولة لكل أبنائها دولة جمهورية ديمقراطية مدنية موحّدة، بدستور وقانون يقف أمامه الجميع متساوين في الحقوق والواجبات، والهوية الوطنية اليوم، التي تشكلها الدولة الوطنية هي المفتاح الذي سيعيد صياغة وجدان اليمنيين وعقولهم وفقا للحقوق والواجبات والعدالة والمواطنة المتساوية، وليس وفقا للانتماء لهذه الجماعة أو تلك، أو وفقا للأوهام والخيالات المتوهمة والمزعومة هنا أو هناك.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
غير المنظور في الأزمة اليمنيّة
التنوير المجني عليه عربياً
إيران وإسرائيل وشفرة العلاقة