حدث فجر يوم الخميس، 7 إبريل/ نيسان 2022، تحوّل كبير في النظام السياسي اليمني، حيث أعلن الرئيس عبد ربه منصور هادي تفويض صلاحياته نهائيًا إلى مجلس رئاسي، يضم رئيسا وسبعة أعضاء. لا يزال هذا المفصل المهم في تاريخ الصراع اليمني الراهن طازجًا، ولاستخلاص بعض الأفكار منه يجب فهم الطريق الذي ساق المجتمع السياسي إليه.
منذ وصول هادي إلى الرئاسة قبل عشر سنوات، باعتباره حلًا وسطًا للصراع بين ثورة فبراير ونظام علي صالح، تشكّلت، مع الوقت، توازنات واستراتيجيات محدّدة حكمت سلوك الرئاسة والقيادات الحزبيّة عقدا، ولم تفلح في تغييرها أو كسرها الحربُ الأهلية الطاحنة، ثم دخول السعودية والإمارات في الحرب، بل زادتها الحرب توسيعًا واستقرارًا قادا إلى انسداد وفشل كبيريْن في مسارات الاقتصاد وبناء البيروقراطية والكفاءة العسكرية في مواجهة الحوثيين.
كان هادي، منذ البداية، مدركًا صفته المؤقتة والعابرة في السلطة؛ هو لم يكن إلا ممرّا تنتقل عبره البلاد إلى نظام سياسي جديد. لذلك، ولأنه لم يكن مؤمنًا بدور للقواعد الشعبية في ترسيخ السلطة، كان يراهن بإفراطٍ على دور القوى الإقليمية والدولية في ضمان استقرار موقعه أولًا، ولجم حلفائه الذين يتحرّقون لإنهاء مرحلته تمامًا مثل خصمه الأخطر الرئيس السابق علي صالح. وهذا يعني، في كلام آخر، أن بقاء هادي مشروطٌ بوضع اليمن في انتقال لا ينتهي. أما قوى اللقاء المشترك فقد طوّرت سريعًا مقاربةً تشبه مقاربة هادي، بعد أن اتضح لها حجمها الحقيقي، خصوصا مع فشلها المروّع في صدّ تحالف الثورة المضادة (الحوثي - صالح)، وتأكد لها أن "الإصلاح السياسي" غير ممكن بدون تأبيد المرحلة الانتقاليّة. أما الإصلاح السياسي نفسه فقد كرّس "اللقاء المشترك" فكرته الخاصة عنها طوال هذا العقد المضطرب (2012-2022) والتي يمكن اختصارها في أن الإصلاح السياسي لا يتمثّل في تنفيذ سياساتٍ معينةٍ منطلقة من تصورات وأفكار أيديولوجيّة واضحة، بل هو مختزلٌ في مشاركتها في الحكومة مهما كان سياقها، وهكذا لا يعرّف التوافق الوطني إلا بالمحاصصة الحزبيّة. لا يمكن لنا فهم خضوع الأحزاب اليمنية السريع والمعقّم من أي حد أدنى من المطالب أو الاشتراطات أمام الحوثيين، وذهابها جميعًا نحو شرعنة انقلابهم وغزوهم صنعاء بتوقيعها على اتفاق السلم والشراكة، إلا باستحضار فكرتها الخاصة عن الإصلاح السياسي ووضوحها، في مقابل ضبابية كل فكرةٍ تأسيسيةٍ أخرى للمجال العام، مثل تصور الدولة والأمّة.
مع توالي سنوات الحرب وتمزيقها القوى الحزبيةَ المنهكة أصلًا، تضخّمت أكثر قوة الإقليم في الشأن اليمني ويوميات الحرب، وأضحت الأحزاب، باستثناء التجمّع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمون في اليمن)، مجرّد صورةٍ تزيّن المشهد السياسي، وتغطّي بمظهر الإجماع الوطني سياسات الرئاسة والقوى الإقليمية، من دون أن تكون فاعلًا يمثل قواعد اجتماعيّة أو يريد تشكيل تحالفاتٍ شعبيّة. في هذا الوضع، رأت جميع الأحزاب (باستثناء المؤتمر الشعبي العام) أن ما وصلت إليه من مقاعد في الحكومة هو أفضل مشاركةٍ حقّقتها في تاريخها منذ التسعينيّات. وعلى الرغم من الوضع اليمني الكارثي سياسيًا واجتماعيًا، لم يعد في مصلحة هذه الأحزاب الدفع بأي إصلاح للنظام السياسي، لأنه بالضرورة سينتقص من نفوذها الحكومي الذي لا ينهض على قوةٍ شعبيّةٍ ودور محوري في الحرب. وهنا التقت الأحزاب بالطرفين الآخرَيْن المتحالفَيْن، حزب الإصلاح والرئيس هادي؛ كلاهما أيضًا مدركان أن أي إصلاح مؤسساتي أو قانوني سيحجّم دورهما وصلاحيّاتهما، بل وقد يهدّد موقعهما داخل السلطة. هكذا "استقرّت" سلطة هادي والقوى الحزبية رغم انهيار الدولة.
كان انسداد أفق هذه السياسة؛ أي اختيار تكريس النفوذ على حساب الإصلاح السياسي، واضحًا على الأقل منذ صيف 2019. ولم يكن انسدادًا يخصّ أفق الشعب اليمني فقط، بل وانسدادًا قاتلًا في إدارة المملكة السعودية (التي اختارت السياسة نفسها) للحرب، وفي شرايين الرئاسة والأحزاب المختلفة؛ فهادي لم يعد ذا شعبية أو شيء يقدّمه، ويُنظر إليه عقبة كأداء أمام أي حل (بغض النظر عن مضمون هذا الحل)، والإصلاح أضحى أضعف بسبب سلوكه المنفّر وعجزه عن صوغ تحالفات شعبية واكتفائه بقواعده الحزبية وسط المتربّصين به في الداخل والخارج، وبقية الأحزاب لأنها اختارت المشاركة في الحكومة بثقلها الرمزي لا بحيويتها التنظيمية أو دورها الجماهيري اللذَين تناقصا تدريجيًا لأسبابٍ ذاتية وموضوعية، أصبح وزنها الفعلي يقترب من الصفر.
تكوين المجلس الرئاسي الحالي هو ناتج سياسة رفض المبادرة بالإصلاح المؤسساتي لصالح تكريس النفوذ، ووداعٌ لأصحابها. رحل هادي وأبناؤه، وحزب الإصلاح الذي كان الحليف الأول لهادي والحزب الأقوى في النظام عبر الفريق علي محسن الأحمر وبعض القيادات العسكرية، فقد هادي وفقد علي محسن الذي أقيل بقرار من هادي قبل إعلانه تشكيل المجلس الرئاسي بدقائق، وحُجّم الحزب إلى مستوى مقعد واحد في المجلس الرئاسي (لا لثقله الحزبي بل لوزنه العسكري)، علاوة على أن كل خصومه الذين كانوا خارج دائرة صنع القرار الرسمي أصبحوا الآن قطاعاتها الرئيسة (المجلس الانتقالي الجنوبي وقوات طارق صالح وألوية العمالقة (السلفيون)، ومن ورائهم الإمارات). أما بقية أحزاب اللقاء المشترك الكبرى فتعيش مرارات لحظة الحقيقة: ليس لديها مقعد واحد في المجلس! لديها بضعة مقاعد في بقية الهيئات التي لا تمتلك سلطة اتخاذ القرار؛ فقد انزاح الثقل في السلطة بدرامية واتساق مفجع مع الواقع من القوى الحزبية إلى كل من حملة السلاح والتمثيل الجهوي.
يترجم المجلس كذلك الثقل الإقليمي؛ فللإمارات على الأقل ثلاثة "حلفاء" فيه، أما رئيس المجلس، وهو رشاد العليمي، الناصري سابقًا فالمؤتمري لاحقًا، فهو رجل أمن ووزير سابق وتجربته في السياسة ودهاليز البيروقراطية لا يستهان بها، ومعروفٌ منذ أيام ترسيم الحدود مع السعودية في عام 2000، وما لحقها من اتفاقيات أنه من أهم رجالات السعودية في اليمن.. هناك الكثير ليُناقش بخصوص هذا المجلس الذي أكاد أرى مقعدًا شاغرًا فيه ينتظر الحركة الحوثيّة، وهذا موضوع آخر.
*نقلاً عن صحيفة "العربي الجديد"
اقراء أيضاً
خرافاتُ البحر الأحمر وأباطيلُه
تداعٍ حر عن عالمٍ يتداعى: غزة والنظام العربي
صراع الرموز: عن الحوثي وثورة 26 سبتمبر