نخوض في حياتنا اليومية عدة نقاشات ساخنة أو روتينية؛ تبدأ بمزحة وقد تنتهي بخصام مع شتيمة سوداء أو بيضاء، إن جاز القول بألوان للشتائم، وقد تصل "الشتيمة" للجد السابع وتوقظه في قبره!
وسائل التواصل الاجتماعي صعّدت من وتيرة هذا النشاط الإنساني الممتع والمرهق في آن معا، وصار الفرد يجد لزاما عليه أن يشارك ويضع رأيه الموافق أو المخالف، المادح أو الذام، لكل من يجد في طريقه لأصدقاء معروفين، أو مؤثرين ومشاهير على حدود مجتمعه، أو حتى خارجه..
العجيب، أن هذا الكم الهائل من الجدل والاختلاف مع الآخرين، لم يكسب المرء المرونة اللازمة وسعة الصدر لسماع النقد البناء، فضلا عن التقبّل أو الاعتراف بالخطأ، والاعتذار عنه؛ فتجد "الشخص" أكثر ضيقا وأسرع إساءة أو إعراضا..!
وهنا، تردد عبارة "الكلاب تنبح والقافلة تسير"، فقد صارت شعارا يرفعه كثير ممن توجه إليهم سهام النقد لعمل ما، أو تطرح لهم ملاحظة أو مسألة أو آراء مخالفة لفكرتهم، خصوصا أولئك الذين اكتسبوا شعبية- لا بأس بها– وبات لهم حضورا لافتا ومؤثرا..
العبارة، ولكثرة ما استخدمت وشاعت، تستدعي التوقف عندها بقليل من التأمل وشيء من التحليل؛ لأنها تجاوزت المعنى الحرفي والمجازي، واستعملت حتى في غير موضعها، كما أنها– باتت- دليلا مشجعا لثقافة القمع "أحادية الرأي"، بل وطريقا نحو التهميش والضيق بالآخر..!!
عزيزي/تي؛ استعمالك الدائم لهذه العبارة المستهلكة والرثة له ثلاث دلالات من وجهة نظري البشرية المتواضعة، وأرجوا أن تعتبروني بشرا مثلكم، له الحق في وجهة النظر وإبداء الرأي، لكن اسمحوا لي قبلها أن أضع أمامكم هذه الحقيقة المستهلكة أيضا:
أنت كفرد بشري معرض للخطأ والصواب، للنجاح والإخفاق، للتعثر والنهوض، وهذا ما يجعلك عرضة دوما لألسنة الآخرين وأقلامهم وسهامهم.. وهنا، أعود لمحاولتي الإجابة: لماذا يضيق المرء برأي مخالفيه ونقدهم له؟!
الاحتمال الأول: تحقيق المرء لسلسلة نجاحات في حياته- علمية أو مادية أو اجتماعية- تجعله معتدّ بذاته بدرجة عالية ومانحا إياها "ضمان" أو "رخصة تفوق" غير قابلة للتشكيك أو المراجعة، وبالتالي يضيق بكل ناقد أو رأي مخالف، ويغلق باب النقاش عن أي حوار أو الرد عن تساؤل؛ لأن الآخر دون المستوى وغير مؤهل للخوض فيه، مع تجاهل أن الآخر قد يكون أكبر مكانة أو تجربة أو عمرا، ضاربا عرض الحائط: أن الحكمة تؤخذ حتى من أفواه المجانين. وهذا الشعور المتلازم بدونية الآخرين و"التضخم الذاتي" تمنعه من الاستفادة أو تقويم السلوك والمضي بعناد مضاعف..!
الاحتمال الثاني: بعد أن يمتلك المرء رصيدا لا بأس به من النجاحات أو الانجازات، يكثر المادحين والمتملقين والمنتفعين من حوله، وتكون لغة الموافقة والإشادة هي السائدة، ويألفها لدرجة أن يجد المخالفة والنقد فعل شاذ وصادم وشديد الوقع على النفس، ما يستوجب المواجهة بعنف لفظي، وفي أحسن الأحوال تجاهل لا يستحق الالتفات إليه؛ لأنه قافلة تسير وهم كلاب تنبح!، متناسيا أن من قال فيك من الخير، ما ليس فيك إذا رضي، لا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك إذا سخط..
أما الثالث: فبعد أن يألف المرء المدح والتطبيل يقع– مباشرة ة- في فخ "نظرية المؤامرة". فكل ما يوجه له من قول مخالف يعتقد أنه استهداف متعمد لشخصه، ويراد منه تدميره والاستنقاص من مكانته أو التقليل من جهوده، بدلاً من تفهمه أو إخضاعه للتحليل والوزن المنطقي.. وبالتالي يتبنى عداء مسبق يصنّف على أساسه الناس لخصوم وأصدقاء حسب ردود أفعالهم الموافقة أو المخالفة له..
وعلى كل حال، وسواءً اعتبرنا بشرا صالحين للقول والنصح أو كلابا تنبح، يجب أن يظل صوت النقد عاليا لكل ما يستوجب النقد والملاحظة بالتزامن مع الإشادة بما يستحق..
هذا معروف نقدمه لبعضنا ولمن نحب ونحترم أكثر مما يجب أن نقدمه لمن يخالفنا أو نبغضه، هو في الواقع حفاظا على الجميع من الوقوع في فخ "التفوق البشري" تمهيدا للوصول لمقام "العصمة" ورضي الله عن الفاروق عمر حين قال: "رحم الله امرءٍ أهدى اليّ عيوبي".
اقراء أيضاً
"اللغة الأم" أو "الأم اللغة"
أخيرًا تطلقت!