يختزل غالبية الشعب مفاهيم مثل الحرام والكفر في مسائل شخصية، كالتعبير عن العلاقات العاطفية، ولا يمكن أن لا يحرص هؤلاء على ممارسة أكبر عملية تبديد للطاقة الجمعية، بالانشغال الهستيري بتلك الموضوعات، ومهما تكن المناسبة خاصة وعفوية، إلا أن لدى هذه الفئة قدرة غريبة على تصدير أسوأ ما يتخيلونه عنها والتحريض على صاحبها، ولذلك فإن تعريف الآخر لديهم وتحديد شكل العلاقة معه، يحدده موقفه من هذه المسائل.
في المقابل يبني بعض شباب اليسار تصوراته عن مفهوم التحرر داخل هذا الإطار وحده، إذ لا يمكن تجاهل هوس الشخصية اليسارية بهامش المساحة المفتوحة لتلك المظاهر، وانشغالها بمحاولة تصدير تفاصيل العلاقة العاطفية إلى المجال العام بشكل متكلف، وبالمثل يحدد هذا النوع موقفا من الآخر، وفقا لمدى استعداده مثلا لنشر صورة يلتقطها مع أنثاه، حيث يعتقد إمكانية حل كل مشكلات وألغاز العالم انطلاقا من هذه الثقافة.
وبينما تجد في كلا الفريقين إمكانية للتصالح مع أشكال التسلط والفساد، فإنه لا يمكنهم السماح بأن تمس تلك التصورات البائسة في دواخلهم.
منذ الأمس، يتم تداول صور رومانسية لشُبان وزوجاتهم، كان مصدر تلك الصور احتفالية صغيرة بمناسبة عيد الحب، نشر المحتفلون تلك الصور موقعة بكتابات موجهة؛ وهنا تحديدا كانت الإشكالية، أن ظهرت تلك اللقطات الغارقة في الحسن والجمال، كما لو كانت فعالية سياسية حملت رسالة ما، فقد حرص أصحابها على تقديمها كجزء من عمل حزبي منظم ضد منافسين سياسيين، في وقت كان ينبغي أن تظهر كما يجب أن تكون، على سجيتها، باعتبارها مناسبة شخصية، يكفلها القانون، يجب معاقبة من يحرض عليها.
أحيى شباب اليسار هذه المناسبة كرد فعل أو ما يمكن أن نسميه محانكة - حسب التعبير العامي - لما يعتقدون أنهم متدينون متشددون، ينتمون لحزب يعتبرونه خصمهم الفكري والسياسي، بينما كان الأجدر أن يحدث هذا الأمر كفعل أصيل تلقائي ينبع من شعور بالرغبة الذاتية، هكذا بدا الأمر للبعض على الأقل.
قرر من خطرت في باله تلك الفكرة التضحيةَ بقدرته على تأكيد قيمة الحرية الشخصية في المجتمع، مقابل ذهابه ليؤكد وجوده أمام خصومه السياسيين من خلال بتعليقات مراهقة.
عندما يتمكن الآخر "الخصم الافتراضي" من إحداث اختراق نفسي عميق في غيره، يتيح له تحديد خياراته، والتحكم بنمط حياته الشخصية، ربما الأكثر خصوصية فيها، وصولا لتوجيه طريقة تفكيره ومشاعره، فتلك مرحلة من العلاقة تنبئ بوضع خطير وغير صحي، على المستوى الفردي والجماعي، إذ يصبح المرء حينها غير قادر على التفكير بحرية أو اتخاذ موقف مستقل، فهو بات يعاني من حالة استلاب، وغير قادر على التحرك وفق ما تقتضيه المصلحة والمنطق، بل وفق ما تقتضيه معارضة الآخر ومفارقته، حتى وإن أفرز ذلك النهج نتائج مدمرة.
وبمجرد أن يتحول موقف الآخر أو الموقف منه إلى دينامو يحرك قرارتك ومواقفك الأخلاقية، فإنه يصبح من الضروري إحداث مراجعة شاملة في حقيقة النزاهة الفكرية والأخلاقية، وجدية الحقيقة الموضوعية التي تدعي محاولة الوصول إليها، ويجب أن تتساءل حينئذ من هو الفاعل الحقيقي وصاحب السلطة العليا عليك، لأنه غالبا ما تكون الأحقاد الرابضة في أعماقنا، هي الوحش القابع في قعر البئر، دون أن نشعر، وكثيرا ما نكون على دراية، إلا أننا ننغالط.
في سياق آخر، تشير عملية التبخيس التي تتعرض لها مفاهيم وظواهر حساسة كالدين والحرية، إلى أنه لم يعد بالإمكان الرهان على النماذج الأيديولوجية، كأحد الحلول المتوقعة لمعالجة مشاكل الوضع الراهن، كما أن الهوية القبلية - وليس هوية القبيلة ذاتها- بل روحها التي لا تزال تهيمن على هوياتنا المعاصرة، تضع عراقيل صعبة على طريق التغيير، إذ تفاقم ممارساتنا للهويات وتعبيرنا عنها بصورة قبلية من المشكلة التي نعيشها، فبينما يقدم أحد التيارات اليسارية مناسبة شخصية تدخل ضمن نطاق حريات الأشخاص، باعتبارها إحدى معارك النضال، وأهم ركائز إتمام السلام في المنطقة، نشاهد الآخر يختنق بالتقاط صورة حميمية لرجل مع زوجته، ويعتقد أنه لم نعد نبتعد عن عذاب الله سوى بضع خطوات ومجموعة دعوات.
يمكن القول إن المجازفة بتحويل تفاصيل العلاقات الشخصية، إلى ورقة لتصفية الحسابات السياسية، يفقد تلك المناسبات براءتها ونقاءها، ويشوه حقائقها الجميلة لدى قطاع عريض من الناس، فكما تحولت تجارب استخدام الدين في السياسة عبئا كبيرا على كاهل الإسلاميين كل مرة، حتما سيمثل أي توظيف لأي شعار وطني كان أم قومي أم حقوقي عبئا يثقل كاهل أصحابه يوما ما، وكما اعتقد الإسلاميون أنهم يهيمنون على الخطاب الديني، بهدف الاستحواذ على ولاء الشعب المتدين؛ يحاول اليساريون اليوم الاستحواذ على الخطاب الحقوقي، لذات الأسباب والغايات داخليا وخارجيا، ولكنَ هذا سيفشل حتما مثل سابقه.
العبث بمفاهيم الحرية، واستنزافها في معارك جانبية لا تخصها، واستخدام الأدوات المشروعة وغير المشروعة كمادة للدعاية السوداء ضد الخصوم، يفقد تلك القيم حضورها، في مرحلة تتعرض فيها تلك القيم لخطر وجودي، وفي وقت اليمنيون في أشد الحاجة إليها، خصوصا تلك القيم المتعلقة بالحرية الشخصية، إذ لا يزال الشعب يرفض حتى اليوم إنجاز أبسط اتفاق نظري حولها، أو إظهار أي تفهم نحوها، بل وتُواجه بعدوانية وشك بالغين من قبل السواد الأعظم من الناس.
إننا غالبا لا نمارس ولا نرفع شعارات مثل الحرية والنضال ضد الظلم والفساد استنادا لوعي حقيقي بقيمتها الوجودية، بل باعتبارها إحدى نقاط الاختلافات المذهبية التي تكرس تميزنا عن الآخر، تلك الفروقات التي نؤكد ذواتنا من خلالها، انطلاقا من نزعة هوياتية، تهيمن فيها ثنائية "نحن وهم".
كثير من المواقف السياسية والأخلاقية تعرضت لابتزاز وازدواجية فظيعين خلال السنوات الأخيرة، تلك المشاهد القاتمة فرزتها الأحداث العصيبة التي مرت ولا تزال تمر بها البلاد، جميع تلك المحارق الأخلاقية الجماعية والفردية عبرت عن حقيقة الشعارات البراقة لدى صفوف المؤدلجين، كما برهنت على فاجعة واقعنا الأخلاقي الأسود بشكل فج وصادم.
اقراء أيضاً
ثورة فبراير ومرضى الخيالات الفقيرة