قال انتظر..
ومد يده المرتعشة من هول اللحظة، ليخرج ورقة من جيب بزته العسكرية المهلهلة، التي تَعَلّم كيف يرتديها ويصلح هندامها بعد لأي.. وضعها في راحة يدي وشدّ أصابعي مغلقا عليها، وقال بصوت متهدج: "احملها الى أخي متى جاءك نبأ رحيلي إلى السماء".
نظراته كانت كالسكين، اشبعتني وجعا، ورأيت في قسمات وجهه: كيف تحول اليمني الأصيل في جبهات النضال إلى حالة ذات قيمة تجارية، وأصبح لا يملك حق أن يسأل: ثم ماذا؟!
مؤلم حين تحُوُلُ ميليشيا بين عاشق وحبيبته، ليعيش على كذبة أنه بخير، وحبيبته البعيدة تمنحه نكهة الحياة عندما يكون الموت بالجوار!..
كان "صقر" يدرك أن عمره قد نفد. إنها كرامة الإله لمن اصطفاهم؛ أن يمنحهم شعور اقتراب الرحيل ليستنفدوا آخر أعمالهم الخيرة. كتب صقر وصيته بدمه، ووضع فيها آخر أحلامه. شممت وداعا حزينا ينبعث من شفتيه اللّتين شققهما صقيع هذه الجبال.. تدفق دمي فزعا وخامرتني أسئلة جريئة فرضتها علي لحظة فارقة..
أيمكن أن يموت "صقر"؟ قلت لنفسي بتوجس مهيب!..
لم يخطر ببالي قط، أن يموت هذا الجبل!! ظننت جذوره عميقة، لا يمكن اقتلاعها.. كنا نسميه "نوح"، إشارة إلى عمر طويل لكثرة ما عاد من الموت؛ جُرح خمسا، وعاد بعد أن فقدنا الأمل بعودته..
كنا سبعة في هذا الموقع، الذي يتصدر "نهم"، كما يتصدر الزعيم اتباعه. مضت الأيام وأصبحنا ثلاثة؛ لكن وجود "صقر" لم يشعرنا بفارق العدد، فقد كان أقوى من كتيبة، وأحّنّ من أب..
منذ ثلاث سنوات، وأنا اتنقل بين هذه الجبال الشاهقة، من مترس إلى آخر، وبدل أن نحتلها احتلتنا هيّ، أصبحت تعيش فينا أكثر مما نعيش عليها. كان "صقر" لا يحب ضجيج المدينة، وفي المرات القليلة الماضية، التي هبط بها إلى مارب، كان يعود إلينا أبكر مما توقعنا. كان يشعر بضيق يأكل عظامه، وكأنه أسير في زنزانة كبيرة يملؤها الضجيج والغبار، فينقاد لصوت قلبه، الذي يجره جرا إلى المتارس الأولى..
شهور عديدة تمر دون أن يمتلك ريالا في جيبه، حقوقه المتعثرة تلاشت بين أزرار قمصان الساسة وكروشهم المتخمة..!! رغم هذا البؤس كان قلبه أقوى من فسادهم. غادر هذا الموقع أربعة جنود لأسباب وجيهة، كانت أكبادهم مثقلة بمئات الأسئلة:
- ما الذي دفعنا إلى ارتكاب هذه الحماقة؟
- أن ندافع عن أوغاد يأكلون حقوقنا؟
- أوَحدَنا، من نعشق الجمهورية لنموت في سبيلها، بينما يحكمها الجبناء؟
إجابات مبتورة، تطل مبعثرة في الأفق، ثم تسقط وراء الجبال السحيقة..
كل هذا التيه والإبهام، دفعهم إلى المغادرة.. إلى الذهاب حتى الحدود، حيث المال المنتظم الذي يمكن معه مداواة همّ الأسرة ونفقاتها.. لم يفروا خوفا من الرصاص والموت، فقد قاتلوا ببسالة كل يوم، وكبدوا العدو خسائر فادحة..
هاتفني أحدهم قبل شهر، قال لي بنبرة حزن قاسية:
- الجوع وحده دفعني إلى تصرف غير لائق بنضالي وقضيتي..
بكيت وقتها، انتحبت حتى جف الدمع، كم نحن مظلمون بقادتنا اللئام! لكنه قدرنا، قدر الأبطال أن يضحوا لتنعم النعاج والخنازير بالأمن والراحة..!!
الليل يحفنا برهبانيته الكثيفة؛ السماء تبدو كئيبة المنظر؛ النجوم ترقد بسلام.. ووحدنا نترقب الأقدار، ويبدو الموت أقرب إلينا من كل شيء. تُخَامر "صقر" رغبة شديدة بسماع أغنية أخيرة أهدته إياها حبيبته، أغنية "مقادير" بصوت طلال مداح.. يأمل أن يودع حبيبته بسماعها، ليكون وداعا يليق بعاشق أوفى لوطنه أكثر من وفائه لحبيبته..
لم يكن الفن، الذي اعتاد على سماعه، أحيانا، يوهن شجاعته على اقتحام الموت، بل كان يزيده سموا ونقاء وإقداما. تحلق روحه طليقه فوق سلسة الجبال الشاهقة، ويغدوا أسعد من عريس يحضن حبيبته تحت ضوء القمر.
ينحدر "صقر" من سلالة أقيال عريقة من جبال ريمة الشاهقة. كان دمه الحُرّ يفور ويستحيل إعصارا على فلول الحوثية. ينتشي حين يثأر لكرامة اليمنيين بمواجهة الكهنوت. كم كان عامرا بالتضحية والفداء، إلا أن شروده أحيانا كان يعكر صفو هذا النضال. ذلك حين كانت حبيبته البعيدة تسرقه من المعركة، فيتذبذب بين قضيتين تشكلان محور حياته كلها: اليمن وحبيبته. وكلاهما وطن لا يمكن العيش بدونه.
كان قد وعدها بالزواج حين تعود صنعاء لأصلها اليمني الجمهوري، لكن صنعاء تتمنع وتعلو! ويعود ذلك في رأيه، وكما يحب أن يفلسف اخفاقات الشرعية، إلى محنة البيع والشراء التي تربى عليها القادة لعقود، وطالما هذه الثقافة باقية، فمأساتنا باقية أيضا..!!
ذات مرة قال:
- لم أعد أشك أن الحظّ الذي ننشده قد خرج من البلاد، وأصبح لاجئا مثلنا.. لا يمكننا وضع تبرير آخر لكل هذا التعقيد الذي نعيشه، لكن مع هذا لا يمكننا التراجع عما بدأناه، ومحنة القادة لا تُسّوغ تخلينا عن المعركة.
وتارة، يعلو صوته بالقذع، فادرك أن حبيبته تساومه بين العودة إليها، والبقاء شريدا في هذا الجبل البعيد!
ذهب "صقر" إلى ربه، وأخذ معه بقية شجاعتي وجَلَدِي..! "صقر" شهيد من بلاد الجبال الحزينة، فبئس النضال الذي يأخذ مثله، ويبقي على حشد غفير من البلهاء والخونة..!!
تحضرني صورته الأن، في ذلك اليوم حين جُرح للمرة الخامسة، كانت طلقة غادرة قد اصابته في صدره، نقل على إثرها إلى المشفى، وهناك ضاق ذراعا بكئآبة الغرف، فقد اعتاد العيش دون حجاب؛ السماء وحدها من يمكنها أن تحد من شموخه وعنفوانه.. لذلك خرج من المشفى بعد يومين فقط، جاء إلى الموقع، وقال: إن الدواء الذي يحتاجه يكمن في هذا المكان.. هواء الحرية الذي يجوس الجبال بلسما لكل جرح؛ الشعور بالعزة وعمق القضية، كفيل باغتيال الألم ودفنه في أعمق نقطة في الصحراء..
لم يدفن الألم فقط، بل دفن "صقر" بكامل جلاله وهيبته..!! وأنا الذي لم أكن أتخيل يوما أن تموت الجبال، ما زال من الصعب عليّ أن أصدق أن بطلا جامحا وجسورا، ضاق الكون بفتوته ذرعا، سيرضى بحفرة في باطن الأرض..!! روحه ما زالت تظلنا وترافقنا في كل درب..
يا إلهي، أشعر الآن بهول المأساة: لم يمت "صقر" فقط، بل مات اليمن كله..!!
اقراء أيضاً