لا يبدو قراره.. إنه حبيس موروث اجتماعي، نُقل الى مجتمع يعاكس سطوة الموروث الذي جاء منه. من ذا الذي يجرؤ على أن يزاحم ضجيج ليل مدينة نيويورك المكتظة بكل الجنسيات والأعراق، شابكاً يد زوجته، أو أخته، الى أحد مطاعمها، كاشفة الوجه، مبتسمة، دون الشعور الداخلي بالذنب لمفارقة القانون الجمعي، أو دون الشعور بالمخاطرة لمجابهة عادات المجتمع وسطوته..؟!
نعم؛ هي سطوة التقاليد، لا الدين. فلطالما كانت تلك اشكالية متداخلة بفعل الانتهازية الدينية لبعض رجال الدين. فالحرية، وحقوق المرأة في الإسلام مكفولة غير منقوصة، وتحافظ على فرادتها التي وأدتها بعض العادات منذ مولد الأنثى..
ويزخر المجتمع العربي بالأمثلة السلبية، على شاكلة: "يا مخلفة البنات، يا شايلة الهمّ للممات"؛ "الأنثى زريعة إبليس"؛ "ابني حمّال همّي، وبنتي جلابة همّي"...، وغيرها من الأمثلة الكثيرة، والتي تكبل المرأة، منذ ولادتها، بالشعور بالدونية والخوف، حتى قبل الإدانة المجتمعية..!!
بل أن القسوة الذاتية، التي تواجه بها المرأة ذاتها، ربما أثقل بكثير من قسوة المجتمع، أو حتى تضاهيها. فتلجأ للعزلة الاختيارية، مهما حملت من الشهادات العلمية العليا..!! وتلك خصوصية يمينة، ربما، أكثر منها عربية. مع وجود تفاوت بالمستوي من قطرٍ عربي الى أخر.
وإذن؛ ومن وحي فعالية المهرجان اليمني الامريكي الأول، الذي نُظم مؤخرا في نيويورك، شهدنا المشاركة الأولى، الخجولة والدافئة، للمرأة اليمنية. وأقول الأولى، لكونها فعلا هي الحدث الجمعي الأول الذي تشارك فيه المرأة اليمنية على هذا النحو المميز. بالطبع حدثت مشاركات لنساء يمنيات في أنشطة اجتماعية وسياسية، خصوصا خلال الخمس- أو ربما الست- سنوات الأخيرة، ولكن بشكل فردي.
حيث وأن الحالة الفردية، كما هو معلوم، لا تصلح معيارا للقياس. إلا- ربما- بالقدر الذي يشكل مدخلا تفاؤليا، يسترجع الوجه الحضاري لليمن؛ الممتد من حكم أمّنا بلقيس، الى أن دخلنا مرحلة الانغلاق على الذات والرهبة المجتمعية. الرهبة التي أصيب بها الرجل والمرأة، على حد سواء، والتخلي عن التدفق الطبيعي الإنساني لحيوية المرأة في المشاركة، دونما مطالبات وانتزاع لجوهر ما هو حق!! فكيف لمجتمع أن يقتص نصفه، ويحجبه عن الحياة، ثم يتوقع الازدهار؟!..
إن مثل ذلك، يقودنا إلى التساؤل عن التركيبة الديموغرافية التعليمية لليمنيين، هنا في أمريكا؟ وهل تشكل البعد الأكثر تأثيراً في ظاهرة الرهاب اللا-إندماجي في المجتمع الأمريكي؟ أم هو الموروث الاجتماعي والديني؟ أم أنها التركيبة النفسية للرجل، بكل تعقيداتها، والتي هي ليست بمعزل عما سبق؟ أم كل تلك الأمور مجتمعة معاً؟!
الأمر الواضح؛ أننا بحاجة لدراسة العزلة الذاتية، أو الإجبارية، للمرأة، في المشاركة الإيجابية المُثرية للمجتمع. بعيداً عن الإقحام الحقوقي ذو العقدة الأبدية بـ"عدم المساواة". وإيجاد حلول لتلك المعضلة، وفي إطار من احترام خصوصية العادات والتقاليد اليمينة.
بالعودة الى تلك المشاركة، الملتحفة بالستارة اليمينة، وإن عُدّت فعلا متأخرا لخمسون عاما أو أكثر- هو عمر الهجرة اليمينة الى الولايات المتحدة الامريكية- إلا أن الصوت النسوي اليوم كان متميزاً. أو يمكن اعتباره كذلك، بالنسبة لي شخصيا، ليس من حيث أنه لامس وجداني، فحسب؛ بل لكونه ينبئ بما يمكن البناء والتشييد عليه.
أما صوت أيوب طارش، وهو يصدح في المهجر، لأبناء بلد يرزح تحت الحرب، فقد كان بمثابة تجديد عاطفي لفعل الثورة. وأما الأطفال بالزي اليمني، فيضم إلى حكايا التاريخ الأمريكي، البلد العظيمة التي يحفظ دستورها هويتك، وبكامل حقوق المواطنة الامريكية..
هذا المهرجان الاستثنائي، بكل مكوناته، بما هو نتاج (مولود) المنافسة الحادة الأخيرة بين الجمعيات اليمنية الامريكية، والمكونات المختلفة، لربما يكون مجرد حراك تنافسي شكلي، ليس إلا؛ إلا أنه- من وجهة نظر تفاؤلية- من الممكن أن يقودنا إلى حراك ناضج.
يقول أنطوان تشيخوف: "إن الشعب مكبَّل بسلسلة هائلة، وأنتم لا تحطمون السلسلة، بل تضيفون إليها حلقات جديدة"..
لكن، مع ذلك، أرى أنها البدايات قد بدأت تتشكل، لتبلل تلك الروح اليمنية العطشى لسيل دافق وإيجابي من التغير والتطوير.
اقراء أيضاً
الأمم المتحدة كأداة لغسيل الجرائم في اليمن