يحلوا للبعض تبسيط الأحداث إلى صيغ ساذجة كأن يصفوا عملية الوحدة اليمنية بأنها حدث ارتجالي غير مدروس لنظامي الشمال والجنوب هروبا من أزماتهم الداخلية بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي في الجنوب أو الأزمات الاقتصادية في الشمال، متجاهلين أنها نتيجة عقود من الحضور السياسي والثقافي والشعبي بين شطري اليمن قبل وبعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر.
 
ربما أن الأحداث العالمية والداخلية حينها لعبت دورا بأن سهلت في إعادة التوحيد اليمني ملثما ساعد انهيار جدار برلين في تسريع إعادة توحيد ألمانيا الغربية والشرقية. لكن هذا لم يكن ليحدث لولا أن سبق الأمر عقود من المفاوضات والأهم من ذلك الحضور في الوجدان الشعبي والهوية المشتركة لدى الأمة اليمنية والألمانية. أي أن انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة قلل من الاستقطاب الدولي ومن ثم خفف من الضغوط الرافضة لتغيير الخارطة الجيوسياسية كتوحد اليمن وإعادة توحيد ألمانيا ومنح الشعبين الفرصة لتتويج الجهود السياسية والرغبة الشعبية الممتدة عقود إلى الوراء.
 
لذلك لم يكن من سبيل المصادفة أن تتزامن الوحدة اليمنية وإعادة توحيد ألمانيا في نفس العام 1990. فالدول التي كانت تضغط على جمهورية اليمن الشعبية وألمانيا الشرقية من جهة، وعلى الجمهورية العربية اليمنية من جهة أخرى، مثل السعودية ودول كانت تعارض توحد اليمن، وبريطانيا التي كانت تتخوف من إعادة توحيد ألمانيا، أصبحت أقل حدة في مواقفها مع الواقع السياسي الدولي الجديد.
 
إن تزوير التاريخ ومحاولة الاجتزاء من أحداثه المتصلة والمترابطة من أجل أغراض سياسية أمر معيب ويسقط أمام ما أمكن توثيقه من أحداث ومترابطة، فالوحدة اليمنية لم تكن لتحدث لولا الحضور المتجذر رسميا وشعبيا ما قبل 1990 بعقود. ومن الأمثلة على ذلك قصة النشيد الوطني الرسمي للجمهورية اليمنية الحالي الذي كان النشيد الرسمي لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (جنوب اليمن) قبل الوحدة اليمنية وأعتمد بعد الوحدة في 22 من مايو 1990م ليكون النشيد الرسمي للجمهورية اليمنية. بينما كان نشيد الجمهورية العربية اليمنية هو نشيد في ظل راية ثورتي من عام 1978م وحتى عام 1990م.
 
كلمات النشيد من تأليف الشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان، الذي غادر منطقته بمحافظة تعز إلى مدينة عدن بعد تحذيره من إصدار أمر اعتقاله من الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين. وفي عدن عمل بالتدريس في مدرسة با زرعة وساهم بتأسيس حزب الأحرار وأصدر جريدة "صوت اليمن" المناهضة للحكم الإمامي في الشمال. وكتب مقالات سياسية ساخنة في الصحف العدنية الأخرى بتوقيع "يمني بلا مأوى". ثم قام بإصدار صحيفة "الفضول" وقد عرف اسمه الأدبي بالفضول نسبة إلى هذه الصحيفة التي أغلقت نتيجة لضغوط من الإمام أحمد على السلطات البريطانية في عدن عام 1953.
 
كانت عدن تمثل الملجأ للثوار والمعارضين اليمنيين ضد حكم الإمامة في الشمال، بينما مثلت مدن شمالية حاضنا للثوار في جنوب اليمن ضد الاحتلال البريطاني وكان حلم اليمن الموحد يجمع كل هؤلاء.
 
بعد ثورة 14 من أكتوبر المجيدة، وحتى الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م، ورث الثوار في جبهة تحرير الجنوب ثم الجبهة القومية للتحرير تركة صعبة من الاستعمار البريطاني ككيان يسمى "اتحاد الجنوب العربي" مؤلف من 21 سلطنة. كان لابد من هوية جامعة للكيان الجديد الذي أطلق عليه جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية بين 30 نوفمبر 1967 و1 ديسمبر 1970، حتى غُيِر إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. كان أهم ما أنجزه الثوار ورجال الدولة أن تم إعادة الهوية اليمنية التي حاول الاستعمار طمسها بكيان مستحدث سمي "الجنوب العربي".  بهذه الطريقة قامت جبهة تحرير جنوب اليمن ثم الجبهة القومية للتحرير بدمج السلاطن المتناثرة في الدولة اليمنية الجديدة. كانت كل سلطنة تملك حدودا وعلما وحتى جواز سفر خاص بها.
 
ظل هدف إعادة توحيد اليمن الهم الشاغل للسياسيين والنخب في جنوب اليمن، وأيضا في الشمال، رغم الصراعات التي حدثت بين نظامي جنوبي وشمالي اليمن بسبب الاختلافات الأيديولوجية وحالة الاستقطاب الدولي حينها نتيجة الحرب الباردة والتي وجدت اليمن نفسها منقسمة بين شقي المعسكر الشيوعي والرأسمالي.
 
رغم ذلك لم تتوقف جهود إعادة التوحد التي أخذت ذروتها في عهد الرئيس الحمدي والرئيس سالمين، ثم توجدت في 22 من مايو 1990. ورغم أن الخذلان أصاب الكثير بسبب حالة الصراع بين طرفي النظام الجديد التي انفجرت بحرب صيف 1994، إلا أن هذا لا يقلل من نبل وسمو عقود من الحضور السياسي والنخبوي الشعبي للوحدة اليمنية في الوجدان بين شطري اليمن، والتي أصبحت فيما بعد -للأسف- أداة للخطاب الشعبوي للسلطة والمزايدة والقمع السياسي.
 
ربما أن من أسباب تعثر الوحدة اليمنية يعود لطبيعة النظام السياسي. ألمانيا كان لها إرث ديمقراطي ممثلا بألمانيا الغربية بينما اليمن كان النظام الشمالي والجنوبي شموليين. رغم أن الوحدة اليمنية أقرت التعددية الحزبية والديمقراطية، لكن طبيعة النظامين جعلت من الانتقال لدولة ديمقراطية أمراً صعبا فحدث الاحتراب الداخلي مثلما كانت الحروب تحدث قبل الوحدة في إطار الشمال كحرب المناطق الوسطى أو الجنوب كأحداث 86.
 

*المقال خاص بـ "يمن شباب نت"