قبل أعوام طويلة عاش اليمنيون في حقب ظلام دامس، لم يكن ذلك الظلام جزءاً من ليل الله الذي يغشى الدنيا ثم يذهب بمجيء الصبح، بل كان ليلاً متصلاً نسجه الجهل والظلم والاستبداد، التعليم الذي كان من حظ ثلة من بسيطة من اليمنيين لم يكن متاحاً للجميع، لذا كان من الصعب أن يتم اقناعهم بأن الإمام الذي يحكمهم لم يكن نصف إله بل كان بشراً عادياً للغاية، مرت السنوات وهبت رياح التغيير في أحد أجزاء الخارطة العربية، هناك حيث انطلقت اول شرارات محاول التخلص من استبداد الملكية على يد عبد الناصر، والتي سعت لتطبيق نموذجها في اليمن، لم يكن من السهل ابداً نقل تلك التجربة ولكن بمحاولة السواعد السمراء للثلة المتعلمة من اليمنيين تم ذلك.
لماذا الثورة؟!
لم نعتد أن نسأل أنفسنا مثل هذا السؤال، لكن في الخطوة الاولى التي اتخذها اليمنيون الاحرار سألوا أنفسهم وقرروا أن يصنعوا الإجابة بأنفسهم فكانت المحاولة تلو المحاولة حتى تمكنوا أخيراً من اسقاط عمامة الإمامة التي أستمرت ألف عام وأكثر في اليمن، جاءت هذه الثورة محملة بإكليل من الاهداف على رأسها التخلص من الاستبداد، وعلى الرغم من مرور نصف قرن على هذه الثورة إلا أن الاستبداد لا يزال قائماً حتى اللحظة.
الثلايا الذي لعن الشعب الذي برر قتله كان في حقيقة الامر يلعن الجهل الذي شكل تلك العقول، الحرية التي حاول أن يقطفها من أجل البؤساء من اليمنيين قطفت رأسه، ورحل مكللاً بالنصر، نظرته لا تزال خالدة حتى اللحظة في المتحق اليمني، الزبيري والنعمان عبد الله اللقية علي بن علي الرويشان وأحمد ناصر القردعي وصالح الرحبي وعبد الرحمن الارياني، جميعها اسماء وقفت بشموخ على مفاصل هذه الثورة وصنعت حبكتها لتمهد لنا الطريق، الطريق نحو الحياة الحقيقة.
ارهاصات الحرية
لم يكن من السهل اسقاط ذلك النظام الظالم إلا بكثير من الدماء، بكثير من الحروب التي كانت ثمناً للجهل الذي غرس في عقول اليمنيين لعقود طويلة، وعلى الرغم من التضحيات الجسيمة التي قدمت في ثورة 26 إلا أننا بعد نصف قرن اكتشفنا أننا لا زلنا نقف عند نقطة البداية، النقطة التي حركت كلمات الزبيري وهو يوضح سبب الانقلاب على نظام الامامة، الاستبداد الذي جهل الشعب، وسرق ثرواته وقسم جيشه وخلق الفتن في صفوفه، الاستبداد الذي سرق ابتسامة السعيدة وجعلها أشبه ببلاد واق الواق التي تحدث عنها الزبيري، ذلك الاستبداد هو الذي حرك غضب الجماهير، لكنها لم تشعر بالغضب إلا بعد أن وعت الظلم الواقع عليها، وبغير ذلك الوعي لا يمكن ان تشعر بالظلم من الاساس.
الحرية التي حركت هواجس الثوار في البداية لا زالت تسكن أفئدة أحفادهم، تحركهم صوب الثورة مجدداً، لذا لم يكن من المستغرب أن تستيقظ ثورة أخرى في 2011 خصوصاً بعد أن بلغ الفساد مبلغه، واليوم بعد أن رأينا أن حجم الفساد الذي ظهر خلال الفترة السابقة تبرز لنا اسئلة كثيرة حول ما إن كانت ثورة 26 سبتمبر 1962 قد حققت أهدافها أم أنها بقيت اشبه بالخيال في عقول اليمينين؟!
الثورة التي انطلقت لم تخمد وانتصرت حينها، لكنها لم تتمكن من مواصلة انتصارها لأن الأيادي الخبيثة والعيون المترقبة كانت أكثر مما تخيله الاحرار، لذا تكاثرت الأيادي التي اغتالت الحلم في رأس الزبيري، والطموح من عيون ابراهيم الحمدي وغيرهم كثر ممن طالتهم يد الاغتيالات الآثمة، وهكذا وجد اليمنيون انفسهم مرة أخرى في سبات الغفلة يبحثون عمن يوقظ وعيهم من جديد.
الخطوة التي حدثت في 2011 كانت محاولة جيدة لكنها لم تكن كافية لتوقظ ذلك الوعي، هذا لا يعني فشلها بل تعثرها، وحتما ستواصل طريقها نحو الحرية كما حدث مع الثورة الأم ثورة 26 سبتمبر التي لازلنا نعيش وقع تأثيرها حتى اليوم كلما رددنا النشيد الوطني، النشيد الذي يسقط قيم الإمامة إلى الأبد ولو كره الحاسدون.
نحو الحرية مجدداً
حتماً لن يتمكن اليمنيون من بلوغ الحرية والمجد فقط من خلال الغضب الشعبي الذي يشكل الثورات، لأن الثورات وان حققت قلبة على النظام إلا أنها لن تحقق استقرار المجتمع وهذا ما يتطلب جهدا حقيقياً من قبل كل أفراد المجتمع في أن يبنوا خطواتهم بوعي نحو الانقلاب على الفساد القائم ليس في المجال السياسي وحسب، بل في كل مجالات الحياة، بالطبع يجب ان يقود حملة التغير هذه حملة الاقلام والمتعلمين من الشعب، تماماً كما فعل أجدادنا عندما قرروا ان يتمردوا على واقعهم الظالم، وعندما قرروا ان يحولوا تعليمهم إلى واقع ملموس يعيد بناء وعي المجتمع ويحرك قوته نحو بناء الأفضل.
على مدار عقود انشغلنا بالفقر والمرض مجدداً في عهد صالح، واليوم نغرق في حقب الظلام مجدداً على يد جماعة الحوثي، لكن شرارة الثورة الأولى تبرق لتعري الواقع من زيفهم، لتخبرنا عن الفسدة الحقيقيين، عن الظلمة الحقيقين، عن المستبدين الجدد الذين دمروا كل شيء، الذين داسوا على دم الزبيري والثلايا ونعمان بقدم متخشبة، وكأن اليمن ليست بلاد الأحرار بل قطيع لفصيل ديني معين!
أحفاد الاحرار لن ينسوا حلم آبائهم وأجدادهم، لن يملوا أو يكلوا عن السعي مجددا للحرية، الحرية التي خلقها الله للجميع، ولم يفضل أحدا على أحد إلا بالتقوى، ألسواعد السمراء لليمنين تعرف كيف تستعيد مجدها وقوتها وقدرتها في بناء واقعها من جديد، الامر يتطلب الكثير من المحاولة لأن الثمن وإن كان غالياً فهو لا يساوي دمعة وطن.
وكأننا بعد هذه الأزمان المتعاقبة نسينا أول صرخة حرية لليمنين، لكن هاهو سبتمبر المجيد يأتي ليذكرنا بماضينا المشرق، ويخبرنا ان حاضرنا سيكون مشرقاً أكثر من قبل، يخبرنا ان صاحب الحق لا يخسر ولو ضحى بحياته، لأن حياته ثمنها وطن، الباعة والمغرضين وان حسبوا على هذا الوطن إلا أنهم في نهاية المطاف يبقون اشبه باللعنة، اللعنة التي لا ينساها التاريخ أبداً، لذا لا ضير إن توقفت الثورة قليلاً لتلتقط أنفاسها، لا ضير إن زادت جروحنا وأهاتنا، لا بأس إن تورمت أحداقنا بالدموع، لكن البأس ..كل البأس هو أن نتوقف عن الدفاع عن الوطن، البأس كل البأس هو أن نيأس.
وحتى لا نيأس هاهو 26 سبتمبر يطرق بابنا من جديد ليخبرنا أنها جمهورية، جمهورية يمنية رغم انف العبيد والملكيين.