شهدت المناطق الريفية في محافظة إب (وسط اليمن) إنجاز عشرات المشاريع التي أظهرت ديناميكية ناجحة في إدارة المبادرات المجتمعية التي تتشكل في القرى عبر الوجاهات، ويتم من خلالها رصف الطرقات، وحفر الآبار، وإحداث صناديق لدعم معلمي المدارس المنقطعة رواتبهم.
في مديرية "الشَعِر" تبنى مغتربون من أبناء المنطقة، وخاصة المقيمين في الولايات المتحدة، استكمال مشروع طريق "الصيادي الرضائي" والذي يبلغ طوله أكثر من ثمانية كيلومترات بتكلفة بلغت مليوني دولار أميركي، وكان المشروع الحكومي متعثرا منذ أكثر من عشر سنوات.
وتضم مديرية الشعر أكثر من 220 قرية، ومساحتها 145 ألف كيلومتر، وكان عدد سكانها 40 ألف نسمة في آخر تعداد سكاني أجري في عام 2004، ويتوقع أن العدد ارتفع إلى نحو 60 ألفاً، وتضم كثيرا من المرتفعات الجبلية، وقد برزت مع مديرية بعدان المجاورة، كأكثر المناطق التي تم إنجاز مشاريع مجتمعية فيها.
بدأت مهمة إنجاز مشروع الطريق بتشكيل لجنة من وجاهات المنطقة، قامت بدورها بالتخطيط، واستقدام مهندسين، ومناقشة طرق الحصول على الأموال من خلال دعوة المغتربين والسكان للتبرع عبر لجان متخصصة تم تشكيلها، كما تابعت مع المتعهدين دفع المبالغ المطلوبة، ثم متابعة مراحل الإنجاز.
ويقول صدام دبوان، وهو أحد سكان المنطقة، إن "التعاون الكبير الذي أبداه السكان، والأموال التي دفعها المغتربون كانت مثالاً يحتذى على التعاون المجتمعي الذي أنجز الطريق التي سهلت التنقل على آلاف المواطنين، وأصبح الأمر ملهماً لكثير من المناطق".
يضيف دبوان في حديث مع "العربي الجديد": "المغتربون كان لهم الدور الأبرز في التمويل، وغالبية السكان شاركوا، كل بقدر استطاعته، والمشروع بات شبه مكتمل، وحالياً يجري إنجاز مرحلته الأخيرة التي تشمل استكمال التشطيبات".
وخلال السنوات الماضية، ظهرت العديد من المشاريع التنموية والخدمية التي تبنتها مبادرات مجتمعية بتمويل ذاتي لمواجهة الأوضاع السيئة التي تعيشها البلاد من جراء الحرب، فتم ترميم وبناء عدد من المدارس، وتعبيد وشق طرق، ووفق تقديرات غير رسمية، فقد بلغت كلفة مشاريع المبادرات المجتمعية في مديرية الشَعِر بمحافظة إب، خلال عام 2022 وحده، نحو 11 مليارا و184 مليون ريال يمني (الدولار يساوي 530 ريالا).
ويعتقد الناشط المجتمعي محمد الدلالي، من مديرية بعدان، أن "التنافس بين المغتربين، وشعورهم بالانتماء إلى القرى، كان حافزاً لإنجاز الكثير من مشاريع المبادرات المجتمعية، وتسعى الوجاهات الاجتماعية إلى إبراز النماذج التعاونية في القرى من أجل تحفيز الدعم المالي، أو المشاركة في العمل التطوعي". ويوضح لـ"العربي الجديد": "في منطقتنا، تم إنجاز مشروع جسر في وادي الشناسي بتكلفة 350 ألف دولار، ويتم حالياً العمل على رصف طريق بطول 1300 متر، بتكلفة 140 ألف دولار، وهذه في الواقع نتيجة مباشرة للنجاح الذي حدث في مشاريع مشابهة بالمناطق المجاورة".
وكشفت دراسة ميدانية نشرت عام 2020، أجريت في 56 قرية بمديرية بعدان في محافظة إب، أنه تم تنفيذ 44 مشروعا عبر مبادرات مجتمعية، من بينها 32 مشروعاً انتهى تنفيذها بشكل نهائي. وأكدت الدراسة أنه "إذا كانت الحاجة إلى شق الطرق هي الدافع الأساسي وراء تنفيذ هذا العدد الكبير من المبادرات، إلا أن دافعاً آخر يتمثل في حالة التقليد والتنافس بين القرى عبر الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي في حشد المواطنين".
ورأت الدراسة أن "الانتماء إلى القرية يعد المحرك الرئيسي لمشاركة السكان في مثل هذه المبادرات، والذي ما يزال قائماً على الرغم من موجات الهجرة الكبيرة إلى خارج البلاد، أو الهجرة نحو المناطق الحضرية، ويساهم المغتربون في تمويل مبادرات رصف الطرق لأنها تحتاج إلى مبالغ مالية كبيرة يصعب على المواطنين توفيرها".
وتشكلت مبادرات متعددة خلال السنوات الماضية في عدد من المحافظات اليمنية، وحققت نجاحات كبيرة، ومنها مشروع شق طريق في مديرية وصاب بمحافظة ذمار (جنوب صنعاء) بطول 52 كيلومتراً، وبتكلفة 12 مليار ريال يمني، ويربط الطريق بين ثلاث محافظات يمنية هي ذمار، وإب، والحديدة، ويعد من أهم المشروعات التعاونية المجتمعية في اليمن.
وقبل اندلاع الحرب في اليمن، كانت البلاد تشهد حالة من عدم الاستقرار السياسي والفساد الذي كان عائقاً كبيراً أمام جهود التنمية، وعندما طال أمد الحرب فقد الناس الأمل في إنجاز السلطات مشاريع توفر لهم الخدمات الأساسية، ما اضطرهم إلى مساعدة أنفسهم عبر استغلال القدرات البشرية والمادية المتوفرة لديهم.
ويرى الصحافي أحمد الكمالي، رئيس تحرير منصة بناء المتخصصة بالعمل التعاوني، أن "توجه المجتمع اليمني إلى العمل التعاوني التنموي يعد تعبيراً عن مقاومته ورفضه للحرب، وما تسببت به من دمار على الصعيد الإنساني والمادي"، لافتاً إلى أن "الدعم السخي من المغتربين اليمنيين وفر الإمكانيات المادية لنجاح تلك المبادرات، وكان نجاح أي مبادرة يمثل إلهاماً لبدء مبادرات أخرى في مناطق مختلفة".
يضيف الكمالي في حديث لـ "العربي الجديد"، أن "الحرب كان لها دور في مضاعفة قناعة المواطنين باستحالة أن تقوم الحكومات المنقسمة والمتصارعة بدورها في توفير الخدمات، الأمر الذي دفعهم إلى إيجاد حلول لمشاكلهم الخدمية المتعثرة منذ عقود. الصورة الفريدة للمشاريع المنجزة تعود إلى وجود جذور راسخة للعمل التعاوني في المجتمع اليمني، وقد لعبت التعاونيات دوراً بارزاً فيما تحقق من تنمية منذ سبعينيات القرن الماضي".
ويشهد اليمن حرباً مستمرة للعام التاسع على التوالي، تسببت في دمار هائل للبنية التحتية نتيجة القصف المدفعي والجوي الذي تعرضت له من قبل أطراف النزاع، في حين قدمت المبادرات المجتمعية قصص نجاح ملهمة من عمق المأساة.
(العربي الجديد)