يمثل الاتفاق السعودي الإيراني لطي صفحة الخلاف، خطوة مهمة نحو تفكيك أزمات منطقة الشرق الأوسط خاصة في اليمن، لكنه أيضا سيحول الصين، التي توسطت بينهما، إلى لاعب رئيسي في منطقة الخليج، بل منافس، وربما بديل للدور الأمريكي في المنطقة.
وهذا الاتفاق المفصلي بين أكبر لاعبين إقليميين في المنطقة، نص على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما الموقعة في 2001، والاحترام المتبادل، والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية وجرى بوساطة بكين لتصبح أول وساطة حقيقية تقوم بها الصين في منطقة الشرق الاوسط لحل أحدى أزمات المنطقة.
الاتفاق الذي جرى الإعلان عنه من بكين في 10 مارس/آذار الجاري، في بيان مشترك، أعلن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وإعادة فتح السفارتين المغلقتين منذ 2016، في غضون شهرين.
ولم يغفل الاتفاق الجوانب الاقتصادية، ونص على تفعيل الاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم بالإضافة إلى الثقافة والرياضة والشباب، الموقعة في 1998.
فهذه الخطوة لن تقتصر على مجرد إعادة تطبيع العلاقات دبلوماسيا بين السعودية وإيران، وإنما تسعى لفتح المجال لشراكة أوسع في مجالات متعددة، دبلوماسية وأمنية واقتصادية بالأخص.
ما سيسهم في تخفيف حالة الاستقطاب الدولي بين الداعمين للسعودية والموالين لإيران في المنطقة العربية، ويساعد على حلحلة الأزمات في كل من اليمن ولبنان وبدرجة أقل في سوريا.
لكن من السابق لأوانه الحديث على شراكة استراتيجية بين البلدين في ظل تشعب وتعقد الملفات الخلافية بينهما، ما يتطلب خطوات إضافية لتعزيز الثقة المفقودة.
وفي هذا الإطار، تضمن اتفاق عقد وزيري الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، والإيراني حسين عبد اللهيان، اجتماعا لتفعيل تلك الخطوات، وترتيب تبادل السفراء، ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بينهما.
المصالحة بين أكبر شريكين للصين
تعتبر الصين الشريك التجاري الأول لكل من السعودية وإيران، وتربطها بهما "شراكة إستراتيجية شاملة"، ولم يكن بالإمكان الذهاب بعيدا في هذه الشراكة مع هذين الخصمين اللدودين دون تحقيق هذه المصالحة.
ورغم أن العراق وسلطنة عمان كانا سباقين للتوسط بين السعودية وإيران، إلا أن اتفاق إنهاء القطيعة الدبلوماسية بين البلدين كان على يد الصين، التي ألقت بثقلها السياسي والاقتصادي لإنهاء التوتر بين اثنين من أكبر مصدري النفط في العالم.
فمنذ وصول جو بايدن، لرئاسة الولايات المتحدة، بعد تهديده خلال حملته الانتخابية بجعل السعودية دولة منبوذة، اقتربت الأخيرة أكثر من الصين، ووقعت معها اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة في ديسمبر/كانون الأول 2022.
وكان السؤال المطروح حينها: هل تختار السعودية الصين حليفا بديلا للولايات المتحدة؟ وكان الجواب في الأغلب بالسلب.
فالصين لا يمكنها أن تنحاز بالكامل إلى الرياض في حال اندلعت حرب مع إيران، لأن الأخيرة شريكة مهمة أيضا لبكين، التي وقعت معها في 2020، اتفاقية تعاون تجاري وإستراتيجي مدتها 25 عامًا.
ففي وضع مثل هذا لا يمكن للصين أن تختار بين أكبر شريكين استراتيجيين لها في منطقة الخليج، خصوصا وأن سياستها براغماتية، وتجيد المشي على حبال الخلافات بين الدول بما يخدم مصالحها، دون أن تغضب أي طرف.
لذلك أكدت السعودية أن علاقتها مع الصين لا تعني أنها بديل لتحالفها مع الولايات المتحدة، فالأخيرة لها مواقف متشددة مع إيران، وتفرض عليها عقوبات قاسية، لكنها في الوقت نفسه تبتز السعودية بالبعبع الإيراني.
ولكن التزام واشنطن بأمن الخليج تعرض لامتحان صعب عندما تعرضت المنشآت النفطية السعودية لهجوم استخدمت فيه أعداد كبيرة من الطائرات المسيرة، في مارس 2022.
ومع أن الحوثيين في اليمن، تبنوا الهجوم، إلا أن أصابع الاتهام كانت موجهة إلى إيران بالوقوف وراءه، إما بشكل مباشر أو غير مباشر.
رد الفعل الأمريكي المتخاذل إزاء هذا الهجوم الذي وُصف بـ"الضخم"، جعل السعودية تدرك أن واشنطن ليست حليفا موثوقا به يمكنه ردع أو الرد على أي هجوم إيراني على المصالح الاستراتيجية للبلاد.
ومهد ذلك لتوجه السعودية شرقا نحو الصين، ووقعت معها، بعد ستة أشهر من الهجوم، اتفاقية "شراكة استراتيجية شاملة".
ورغم أن هذه الاتفاقية أثارت قلق طهران في حينها من أن تكون على حساب شراكتها الاستراتيجية مع بكين، إلا أنها ساعدت في الوصول إلى اتفاق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع الرياض، المُوقع في مارس الجاري.
تراجع النفوذ الأمريكي
من الواضح أن الولايات المتحدة تعتبر الخاسر الأكبر من الزلزال السياسي الكبير الذي أحدثه استئناف العلاقات بين السعودية وإيران بوساطة صينية.
فهذا الاتفاق سيسحب من واشنطن ورقة حماية السعودية من التهديد "الفارسي"، ويُضعف الطوق الأمريكي حول إيران، خاصة وأنه من المتوقع أن تستأنف دول عربية أخرى علاقاتها مع طهران على غرار الإمارات والبحرين والسودان والمغرب والصومال وجيبوتي.
ومن المرتقب أن يجمد اتفاق الرياض وطهران أي خطط محتملة لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
ومع وصول إيران إلى مستوى يقربها من صناعة قنبلة نووية، وفق تقارير إعلامية ودولية، فإن الاتفاق لا يصب في مصلحة أي مساعي أمريكية لتشديد الخناق على طهران عبر العقوبات، ولا يخدم تهديدات إسرائيل بتوجيه ضربات للمشروع النووي الإيراني.
فالسعودية لا تريد أن تصبح أراضيها ميدان قتال في أي مواجهة محتملة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى، لأنها ستدفع الفاتورة الأكبر.
ويعد تخفيض السعودية إنفاقها العسكري في 2022، رغم ارتفاع مداخيلها النفطية، مؤشرا على سعيها لتقليص تدخلها العسكري في اليمن، والتركيز على رؤية 2030، التي تسعى من خلالها للتخلص من تبعيتها لمداخيل النفط، وتعزيز مكانتها الاقتصادية عالميا.
وإذ استطاعت بكين إقناع كل من السعودية وإيران بالتعامل باليوان الصيني في تعاملاتها التجارية، خاصة النفطية، معها، فستكون ضربة قاسية للدولار الأمريكي كعملة احتياط عالمي، ما سيؤدي إلى تراجع حجم تداوله مقابل العملات الأخرى، ويمهد أكثر لعالم متعدد الأقطاب.
هذا الوضع من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة للسعي لإفشال الاتفاق السعودي الإيراني، واللعب على نقاط الخلاف الكثيرة بين البلدين، إما بممارسة ضغوط على الرياض للانسحاب منه، أو تقديم إغراءات لتعزيز تحالفاتها معها، ليس أقلها مساعدتها على بناء برنامج نووي سلمي.
فقبل أيام قليلة من إعلان الاتفاق السعودي الإيراني، انتقدت الرياض الاتفاق النووي مع إيران، واعتبرت أنه "ليس مثاليا، ويجب أن يعالج مخاوف دول الجوار".
فاتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية لا يعني إزالة المخاوف السعودية من امتلاك إيران للسلاح النووي، لكنه يمثل رسالة ذات دلالة "للحليف الأمريكي".
المصدر: الأناضول