يعيش أكثر من مليون موظف حكومي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين من دون رواتب، والمدرّسون في المؤسسات التربوية الحكومية من بينهم. وقد دفع الأمر هؤلاء إلى البحث عن بدائل لتأمين قوت عائلاتهم
تستمرّ معاناة المدرّسين اليمنيين في المدارس الحكومية، الواقعة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين من جرّاء عدم صرف رواتبهم منذ نحو ثلاثة أعوام. كثيرون منهم لجأوا إلى العمل في مهن أخرى، منها ما هو شاق، لتوفير متطلبات الحياة الأساسية لأسرهم، فيما فضّل آخرون النزوح إلى مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، على أثر قرارها القاضي بصرف الرواتب لجميع النازحين في مناطقها من دون استثناء.
درهم سيف مدرّس في صنعاء وأب لستة أولاد، يقول لـ"العربي الجديد": "اضطررت إلى العمل في محل لخياطة ملابس الرجال بعد تراكم ديوني وعجزي عن توفير متطلبات أسرتي الأساسية، من جرّاء استمرار انقطاع رواتبنا منذ عشرات الأشهر".
يضيف أنّ "وضعي المعيشي تحسّن مع مرور الوقت، على الرغم من المقابل المادي البسيط الذي أتقاضاه من الخياطة، وبات بمقدوري تلبية حاجات أسرتي اليومية"، مؤكداً أنه يواظب على الحضور إلى المدرسة ويعمل في الخياطة بعد انتهاء الدوام، حرصاً منه على مستقبل التلاميذ وعدم حرمانهم من التعليم.
ويشير سيف إلى أنّ "مدرّسين كثيرين في هذه المناطق يعانون أوضاعاً إنسانية بالغة السوء، ويعتمدون بصورة رئيسية على المساعدات المقدّمة من المنظمات الدولية العاملة في المجال الإنساني"، محمّلاً "وزارة التربية والتعليم في صنعاء مسؤولية معاناة المدرّسين التي تتفاقم يوماً بعد آخر". بالنسبة إليه فإنّ الوزارة هي "المعني الوحيد بإيجاد حلول للكادر التعليمي في البلاد".
أما المدرّس فوزي عبد الرحمن، فيخبر "العربي الجديد" أنه قرّر "البحث عن عمل آخر بعد شهرين فقط من انقطاع راتبي، من أجل تأمين بدل إيجار منزلي وتكاليف الغذاء لأسرتي، وعلاج والدي المريض الذي يُقدّر شهرياً بنحو 27 ألف ريال يمني (نحو 54 دولاراً أميركياً)".
يضيف: "تنقّلت بين مجالات عمل كثيرة في خلال الأعوام الثلاثة الماضية، منها البناء والبيع الشراء في أسواق الخضار والملابس، بالإضافة إلى قيادة سيارة أجرة على مدى 12 ساعة يومياً"، موضحاً أنه لا يجد "عيباً في أيّ عمل يمكن أن يدرّ عليّ المال الحلال، بدلاً من التسوّل".
ويتابع عبد الرحمن أنّه "في البداية، وجدتُ صعوبة كبيرة في التأقلم مع الأعمال الجديدة، إلا أنني تجاوزت كل الصعاب مع مرور الوقت بإصرار كبير".
ويشير عبد الرحمن إلى أنّه ترك التعليم مُجبراً، على الرغم من كلّ التهديدات التي أطلقتها وزارة التربية والتعليم بحق المدرّسين المتغيّبين عن المدارس، شارحاً أنّه "من غير المنطقي الاستمرار في التعليم، في حين أنّ عائلتي تكاد تموت من الجوع ومهدّدة بالطرد من المنزل".
ويوضح عبد الرحمن أنّ "أوضاع التعليم في تراجع مستمر منذ بدء الحرب في البلاد، فالمدارس تعمل من دون موازنات تشغيلية ولا تتوفّر فيها كتب مدرسية للتلاميذ، بالإضافة إلى غياب عدد كبير من المدرّسين المؤهّلين عن المدارس واستبدالهم بآخرين متطوّعين من خارج القطاع التربوي لا يجيدون التعليم ولا التعامل مع التلاميذ".
من العام إلى الخاص
من جهته، انتقل عمر العميسي من التعليم في مدرسة حكومية إلى مدرسة خاصة، وقد دفعه إلى ذلك وضعه الصعب، ولا سيّما أنه أصيب بجلطة في قلبه إلى جانب عجزه عن توفير تكاليف علاجه باستمرار.
يقول لـ"العربي الجديد": "بالكاد أستطيع سداد بدل إيجار المنزل ومصاريفه بواسطة راتبي من المدرسة الخاصة، كذلك لم أتمكّن بعد من توفير تكاليف عملية جراحية ضرورية بهدف الحدّ من تدهور وضعي الصحي".
يضيف: "أنا أبحث في الوقت الحالي عن أيّ جمعية خيرية أو فاعل خير يتكفّل بتغطية تلك التكاليف"، مشيراً إلى أنّه لا يجيد إلا مهنة التدريس، في حين أنّ مرضه يمنعه من العمل في مهنة تستوجب أيّ جهد بدني.
ويستنكر العميسي تجاهل وزارة التربية والتعليم ونقابة المعلمين اليمنيين لأوضاعهم المأسوية، متسائلاً: "لماذا لا تحتج النقابة ضدّ وزارة التربية والتعليم لإيجاد حلول للمدرّسين؟".
نزوح طوعي
وكانت الحكومة اليمنية في عدن (جنوب) قد قرّرت، مطلع عام 2018، صرف رواتب الموظفين الحكوميين النازحين إلى مناطق سيطرتها، ما دفع مدرّسين كثيرين من مناطق هيمنة الحوثيين إلى الاستفادة من ذلك لتحصيل رواتبهم، بعدما حُرموا منها.
رضوان يحيى من بين هؤلاء، هو نزح إلى تعز (جنوب) بعد عام ونصف العام قضاهما في محافظة عمران (شمال) أمل أن يُصرف راتبه.
يخبر "العربي الجديد": "سعيتُ إلى إدراج اسمي من ضمن كشوفات المدرّسين النازحين في تعز، وبعد أكثر من أربعة أشهر من المعاناة والمتابعة المتواصلة صرت أتقاضى راتبي شهرياً بانتظام".
ويشير يحيى إلى أنّه كان يعجز عن دفع بدل المواصلات للذهاب إلى المدرسة التي كان يعمل فيها، "لكنّني اليوم أستطيع القول إنني مستقرّ".
ويؤكد يحيى أنّ "التعليم في اليمن يمرّ بأسوأ مراحله، ولا سيّما في مناطق سيطرة الحوثيين، بسبب استبدال المدرّسين الأصليين بآخرين غير مؤهّلين".
بخلاف رضوان يحيى، فشل المدرّس محمد الوصابي بالوصول إلى مدينة عدن (جنوب)، لكي يُدرج اسمه في كشوفات رواتب المدرّسين النازحين إلى مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً.
يقول الوصابي لـ"العربي الجديد"، إنّ "فكرة السفر إلى عدن جاءت بعد قرار الحكومة مطلع العام الماضي صرف الرواتب للموظفين النازحين جميعهم، بهدف التخفيف من معاناتهم، فاقترضت مبلغاً من المال بعدما تأكدت من جدية القرار وسافرت على الفور.
لكن، ابتداءً من النقطة الأولى في محافظة الضالع (جنوب) رحت أخضع إلى سلسلة من التحقيقات للتأكد من هويّتي، إلى أن أوقفتني نقطة تابعة للحزام الأمني (المليشيا الانفصالية المدعومة من الإمارات في الجنوب) في مديرية الحبيلين في محافظة لحج (جنوب)، ومنعتني من مواصلة السفر إلى عدن بصورة نهائية، لأنّني من المحافظات الشمالية وقد هدّدتني بالحبس إذا حاولت مجدداً الانتقال إلى الجنوب". يضيف: "عدت مُجبراً إلى صنعاء ومكسور الخاطر، وأنا أعمل حالياً في بيع وشراء القات إلى حين صرف الرواتب".
تحييد التعليم
في السياق، يقول مستشار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في اليمن طاهر الشلفي لـ"العربي الجديد"، إنّ "معاناة المدرّسين وأسرهم بدأت مذ تقرّر نقل البنك المركزي اليمني في أغسطس/ آب 2016 من صنعاء إلى عدن. فقد تسبّب ذلك القرار غير المدروس بانقطاع الرواتب عن جميع الموظفين الحكوميين حتى اللحظة".
يضيف أنّ "إجمالي عدد المدرّسين في البلاد يبلغ نحو 200 ألف مدرّس، أوضاعهم تُدمي القلب، إذ إنهم لا يستطيعون توفير الغذاء ولا العلاج لأفراد أسرهم"، مشيراً إلى أنّ "المدرّسين بمعظمهم اضطروا إلى ترك المدارس الحكومية والعمل في مهن غير مرتبطة بمجال التعليم. لكنّ أوضاعهم، على الرغم من ذلك، ما زالت سيئة نظراً إلى انخفاض المدخول المادّي، في الغالب".
ويدعو الشلفي الأمم المتحدة نيابة عن كل مدرّس ومدرّسة في اليمن، إلى "الالتزام بواجبها الإنساني وكذلك الأخلاقي، من أجل حماية التعليم والمنتسبين إليه في خلال أوقات الحرب عبر تحييده، وجعل مسألة صرف الرواتب من أولويات التفاوض بين أطراف الصراع في البلاد".
من جهتها، تلفت المتخصصة النفسية والاجتماعية هيفاء ناصر لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "انقطاع الرواتب عن اليمنيين ولّد حالة من الإحباط واليأس لدى كثيرين من الموظفين الحكوميين، وقد صار هؤلاء أكثر عدوانية تجاه أطفالهم ونسائهم، نتيجة الضغوط المترتبة عن شعورهم بالعجز نظراً إلى عدم امتلاكهم المال".
تضيف ناصر أنّها تلقت "شكاوى من زوجات مدرّسين تؤكّد إصابة أزواجهنّ بمشكلات نفسية نتيجة طبيعية للأوضاع الصعبة التي يعيشونها".
استياء من "يونيسف"
تجدر الإشارة إلى أنّ 70 مليون دولار أميركي قُدّمت لدعم المدرّسين في اليمن، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، غير أنّ المنظمة شطبت آلاف المدرّسين من كشوفات الحوافز النقدية واستقطعت مبالغ من آلاف آخرين، الأمر الذي أدّى إلى استياء واسع في الأوساط التربوية، طالبت على أثره نقابة المعلّمين المنظمة بإصلاح الخلل الذي رافق عملية صرف الحوافز. وتطالب في السياق المدرّسة ابتسام عبد الواحد "منظمةَ يونيسف بصرف المبالغ المستقطعة من حوافز الأشهر الماضية"، مشيرة إلى أنّ "تلك حوافز وليست رواتب شهرية تخضع للاستقطاع بناءً على الحضور والغياب".
تضيف عبد الواحد لـ"العربي الجديد"، أنّ "المدرّسين بقوا لفترة طويلة يعملون بلا رواتب، وعندما عجز بعضهم عن الذهاب إلى المدرسة لعدم توفّر بدل المواصلات، أو مارس أعمالاً أخرى ليضمن سبل العيش لأولاده، تعرّضوا إلى ما تعرّضوا إليه"، مشددة على أنّ "ذلك من مهام وزارة التربية والتعليم لا المنظمات الدولية".
العربي الجديد