بعد أن كان صحفياً وكاتباً لامعاً لم يدر بخلد عارف محسن أن يصبح يوماً مريضاً نفسياً، مأواه الشارع، وبجسد منهك وشبه عارٍ، وملامح بائسة، وعقل غيَّبه ما تعرَّض له من تعذيب في عهد الرئيس الراحل علي صالح.
رغم محاولات فردية لمعالجته من قبل زملائه، فإن جهودهم لم تنجح كما يروي أحد أقاربه لـ"الخليج أونلاين"، فقد كان بحاجة إلى برنامج علاجي متكامل وهو ما لا تستطيع أسرته الفقيرة توفيره، في ظل وجود مؤسسات صحية وطبية متواضعة.
وأضاف قريبه: "لأنه كان معارضاً للنظام، تم تعذيبه حتى فقد عقله، ولم تتم محاولة لعلاجه من قِبل المؤسسة التي كان يعمل بها وهي التوجيه المعنوي للجيش، باستثناء جهود حثيثة من زملاء له في النقابة، لكنها لم تثمر".
تلك معاناته أيام السلم، أمّا معاناته اليوم في ظل الحرب، فقد تضاعفت بالتأكيد، فالمؤسسات الطبية المتواضعة أصبحت مشلولة اليوم في عهد الحوثيين، الذين أوقفوا الميزانيات التشغيلية ووجهوا كل إمكانات الدولة لحروبهم العبثية ضد اليمنيين.
همجية الحوثيين
اليمن بطوله وعرضه يوجد به أقل من 5 مصحات نفسية، لم يرُق للحوثيين أن يُبقوا عليها رغم قلتها، فاقتحموا المصحة النفسية في محافظة إب وحوّلوها إلى سجن، فهم –كما تؤكد أفعالهم– لا يفكرون إلا في القتل والاعتقال ولا وجود للحياة في مشروعهم.
يوم الخامس من أكتوبر الماضي سجل مشهداً همجياً آخر لمليشيا الانقلاب، التي اقتحمت المصحة النفسية في إب وطردت المرضى وحوّلتها إلى سجن، بعد أن امتلأ السجن المركزي في المحافظة الخضراء الذي يحتضن نحو 1800 سجين ومعتقل ومختطف، وفقاً لتقارير إعلامية.
المشهد الهمجي والمنافي للقيم والأخلاق الإنسانية، عبّر عنه مدير المصحة الدكتور عبد الله طامش، بمنشور على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، قائلاً: "مرارة شديدة شعرت بها عندما وجدت أن لا قيمة لشهاداتي ولا لمنصبي كمدير للمصحة وأنا أشاهدهم يستولون عليها ويُخرجون المرضى ويُدخلون مساجينهم مكانهم دون أي اعتبار لي ولا لتخصصي ودون أخذ رأيي أو موافقتي".
وقف الدعم
في الحديدة معاناة أخرى للمرضى النفسيين، والحوثيون مصدر الألم كالعادة؛ حيث يواجه 254 مريضاً بمصحة "دار السلام" ظروفاً صعبة في الطعام والشراب والخدمات، فقد أوقف الحوثيون الدعم المركزي من صنعاء الذي كان يشمل الدواء والدقيق، فضلاً عن انقطاع الكهرباء وعدم توفيرهم الوقود في ظل طقس حار.
ووفقاً لمنشور على "فيسبوك" للصحفي عبد الحفيظ الحطامي، فإن إدارة المستشفى عاجزة عن سداد مستحقات العاملين والأطباء، وتحوّل المريض في المصحة إلى مجرد نزيل لا يحظى بأي اهتمام؛ بل ويعاني بعض المرضى هيجاناً نفسياً بسبب حرارة الطقس وغياب الخدمات.
الحملة التي تبناها الحطامي ونشطاء آخرون في مواقع التواصل الاجتماعي، حركت المياه الراكدة ودفعت وفداً من منظمات الصحة العالمية و"اليونيسف" والغذاء العالمي لزيارة مستشفى دار السلام للصحة النفسية لمعاينة الحالة، وهو تحرك أول لهذه المنظمات تجاه هذه الفئة.
تحرك متأخر
ممثلو المنظمات وعدوا بتقديم مساعدات إنسانية إلى المستشفى وكميات من الأدوية الطبية الضرورية للمرضى وبعض المستلزمات الطبية، بالإضافة إلى الوقود لتشغيل المولد الكهربائي المتوقف.
خطوة جيدة وإن كانت متأخرة، فما يقدَّم من مساعدات إنسانية لليمنيين في ظل الحرب لم يشمل المرضى النفسيين، خصوصاً في الجانب العلاجي.
استشاري الأمراض النفسية والعصبية الدكتور محمد الخليدي، قال إن قطاع الطب النفسي في اليمن سيئ ويواجه تحديات كبيرة، خصوصاً خلال الحرب التي تشهدها البلاد منذ نحو 3 سنوات.
الخليدي أوضح في حديثه لـ"الخليج أونلاين"، أن الحرب وما خلَّفته من وضع معيشي متدهور، وانقطاع المرتبات، عوامل ضاعفت من نسبة الإصابة بالاكتئاب وزيادة عدد المرضى النفسيين بنسبة تتراوح بين 40 و50%، وفقاً لتقديره في ظل غياب المعطيات والإحصائيات في هذا الجانب.
مرضى وأطباء
وكان تقرير رسمي أصدرته وزارة الصحة اليمنية -قبل اجتياح الحوثيين صنعاء في 21 سبتمبر 2014- أفاد بأن عدد المرضى النفسيين في اليمن يزيد على المليون ونصف المليون مريض، بينهم نحو 500 ألف مريض ذهني، في حين أن هناك فقط 50 طبيباً نفسياً موزعين على عموم محافظات اليمن.
وأضاف الخليدي، وهو مدير سابق للطب النفسي بوزارة الصحة: "في الوضع الطبيعي، يوجد عدد محدود من المصحات النفسية، وجزء منها خاص، والعلاج النفسي تكلفته باهظة وعلاجاته مرتفعة الثمن، والناس في الوقت نفسه يواجهون ضغوطاً نفسية كبيرة؛ بل وفقدوا مصادر دخلهم، وهو ما يفاقم الحالة".
وطالب الخليدي المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بالتدخل العاجل في هذا القطاع، "للأسف، المنظمات الدولية، ومنها الصحة العالمية، اكتفت بدعمٍ يرتبط بالدعم النفسي، وهو يستهدف الأصحاء، أما المرض النفسي فهو يختلف تماماً".
حلول أولية
وتقدم منظمات دولية خدمات الدعم النفسي للمتضررين من الحرب، منها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) وصندوق الأمم المتحدة للسكان، إلا أن دعمهما للأطفال يتركز على توفير المساحات الصديقة المفتوحة، مثل توفير ألعاب أو تقديم نصائح عامة.
ويرى الخليدي أن الحل الأولي يكمن في توفير العلاجات بشكل مجاني؛ لأنها غالية الثمن والمرضى لا يستطيعون شراءها، خصوصاً في ظل هذه الظروف الصعبة والرواتب متوقفة.
وتابع: "صحيح أن المريض يحتاج إلى علاج مستمر، لكن توفير العلاجات ولو لفترة مؤقتة سيخفف من المعاناة التي ستتضاعف إذا لم يكن هناك تدخل عاجل ومسؤول".
آثار الحرب
وتقدر مؤسسة "التنمية والإرشاد الأسري" عدد المتضررين نفسياً من الحرب بنحو خمسة ملايين و455 ألفاً و348 شخصاً.
في حين كشفت دراسة صادرة عن منظمة "يمن" لإغاثة الأطفال حول الآثار النفسية للحرب على الأطفال، أن 58.2% من الأطفال اليمنيين ممن شملتهم الدراسة ينتابهم الخوف الشديد، في حين يعاني 37% قلقاً دائماًواضطراباً نفسياً.
وأفادت الدراسة التي استهدفت عينة من الأطفال في محافظات أمانة العاصمة وعدن وتعز وأبين، بأن 36.4% من العائلات أفادوا بأن أطفالهم لا يشعرون بالأمان، و32.7% قالوا إنهم يعانون مشاكل في النوم بسبب الخوف من أصوات الغارات الجوية ومضادات الطيران.