يتفنن الصنعانيون في لهجتهم الغنية بالمفردات، والتي استطاعت أن تغزو المجتمعات القريبة من صنعاء فأصبحت واسعة الانتشار والاستخدام ملفتة للانتباه، وتشد كثيرين ممَّن يزورون العاصمة اليمنية والمقيمين من غير أهلها.
بإعجاب ينظر لها الصنعاني الأصيل، وإن كانت تبدو صعبة الفهم عليه في البداية، إلا أن طريقة نطقها ولغة الإشارة التي تصاحبها، وقوالب استخدامها تجعل منها لهجة ممتعة جاذبة.
متخصصو اللغة والألسن يقولون إن المتحدث بغير لهجته يُعرف، وسكان صنعاء يستطيعون معرفة الغريب عنهم بمجرد حديثهم باللهجة الأصيلة، كما أنه لا يتمكن من إتقانها إلا من عاش سنوات طويلة متنقلاً بين مجتمعاتها المختلفة، وباحثاً عن أصل الكلمة ومنبعها وطريقة استخدامها.
ويقال إن ثقافة الفرد تشكل عقله وشخصيته وقبل ذلك لهجته، وفي صنعاء تحوي اللهجة المحلية تفاصيل الحياة المختلفة، ويعبر صاحبها من خلالها عن كل ما يريد، لكنها تبدو أكثر روعة في حالات العاطفة والاستعطاف.
جزالة الألفاظ
"قَوّى، ويا عُقّي" كلمات شهيرة تُنطق بالجيم بدل القاف، ولدى سماعها تتخيل تلك المرأة الصنعانية في معطفها تتدلل بلسانها وتتفنن بلغة الإشارة المصاحبة لها.
وفي هذه اللهجة تُبدل كاف المخاطبة -حال كانت أنثى- إلى شين؛ فيقال عندش (عندكِ)، كما يعبر الصنعانيون عن احترامهم للكبار باستخدام ميم الجمع؛ فيقولون "ولا يهمكم يابه (لا يهمك يا أبي)"، وتقال أيضاً لغير الأب في تعبير عن تقدير من يكبرك سناً.
ومع قلة الدراسات والأبحاث في اللهجات على مستوى اليمن وليس صنعاء فحسب، ظلت الأنشطة الثقافية على وجه الخصوص الحامل والناقل للهجة الصنعانية عبر الأجيال، ويؤدي المسنون دوراً بارزاً في هذا الجانب والذين يقومون مقام المؤلَفات والأبحاث والدراسات.
الحاج "علي المطري" يبدو بعد أكثر من سبعين سنة من عمره ممتعضاً من أحفاده، الذين يقول إن التقنية تأخذهم عن لهجتهم وهويتهم.
وبلهجة صنعانية أصيلة قلّما يتحدث بها الصغار، يتحدث المطري لـ"الخليج أونلاين"، يقول: إن "أوقات الالتقاء على موائد اللهجة الصنعانية بدأت تقل، كما أن متطلبات الحياة من دراسة ومذاكرة وعمل تأخذ باقي أوقات الشباب بعيداً عن مجالس أهل العاصمة".
وعلى الرغم من كونه لا يعرف سوى قليل من القراءة والكتابة، فإن المطري يطرح ما يراه ضرورياً لمواصلة انتشار اللهجة الصنعانية عبر الفعاليات والأنشطة الثقافية، وإحياء التراث المحلي في المجتمعات الأخرى غير الصنعانية، مشيراً إلى أهمية الحفاظ على التنوع الثقافي والاجتماعي في صنعاء؛ ممَّا يجعل اللهجة الصنعانية سهلة التعلّم ومحببة لغير الصنعانيين.
وبينما يبدو لسان كبار السن في صنعاء مقيداً بالنسبة للجيل الذي اختلطت عليه اللهجات، تظل الصنعانية بغزارة مفرداتها لهجة ممتعة وشائقة يود آخرون من غير الصنعانيين تعلمها وإتقانها، واستخدامها في التحدث مع الآخرين بالمناسبات التي تكثر فيها الأمثال والمخاطبة التي تتطلب من المتلقي الرد بما هو متعارف عليه.
تخطّت حدود العاصمة
أستاذة اللغة العربية، منى الكبسي، تقول إن سبب انتشارها خارج جغرافية صنعاء هو اعتبارها اللهجة المحكية في العاصمة على مدى قرون من الزمن.
وأضافت الكبسي، في حديث لـ"الخليج أونلاين"، أن صنعاء تكاد تكون مدينة اليمنيين من المحافظات المختلفة، وهذا الاحتكاك والتواصل بالكلمة منح اللهجة الصنعانية الثراء والبقاء، إلى جانب أنها لغة التواصل في المدينة التي تشهد حركة على مستويات الاقتصاد والسياسة والثقافة.
وعلى مدى تاريخها احتضنت العاصمة صنعاء الكثير من المجتمعات ليس من اليمن فحسب، بل من خارجها، ولعل آخرهم الأتراك الذين تركوا بصمات واضحة في المفردات المتداولة داخل صنعاء وخارجها.
تقول الكبسي إن اللهجة الصنعانية ما تزال تقاوم الكم الهائل من المفردات التي وفدت إليها مع القادمين من المناطق المختلفة، ويشعر بذلك الكثير من سكان صنعاء الذين لم يختلط لسانهم بمجتمعات أخرى.
وتضيف: "مع التطور الذي يجلب المزيد من الحداثة حتى في اللغة واللهجة، تبدو الحاجة ملحة إلى الحفاظ على اللهجة التي تعكس هوية المجتمع الأصلي قبل أي شيء".
أستاذة اللغة تؤكد أن العمق التاريخي والتنوع الثقافي في صنعاء، إلى جانب الفوارق المجتمعية والتزاوج بين المدينة والريف والمدينة والمدن الأخرى، ساهم بشكل فعّال في إثراء اللهجة الصنعانية ومنحها رونقاً تباهي به عدة لهجات محلية.
لكن الكبسي ألمحت إلى أن تحديات ما بعد 1990 في اليمن تثير القلق بشأن تلك اللهجة، التي بات أهلها يتحملون وزر أخطاء حكام صنعاء وقد تتحمله أيضاً؛ إذ خفت بريق صنعاء كعاصمة حاضنة للتنوع الاجتماعي والثقافي والسياسي اليمني.
ولا تتبنى فكرة أن اللهجة يمكن أن تؤثر على اللغة الفصحى؛ فالأولى وسيلة تواصل بسيطة يومية بعيداً عن الرسمية والقوالب الواضحة للفصحى، في الوقت الذي تلفت الانتباه إلى "الدخلاء" على اللهجة واللغة في آن واحد، فهم -كما ترى- أكثر من يمكن أن يخلط الأمرين ويؤثر عليهما.